ومع أن الجنبن خُلِق مناصفة من جينات الأب والأم ، إلا أنه يولد بجينات “فابريكا” لا تحمل أي ذكريات حتى يصنع ماضيه بنفسه ، فالماضي لا يورث فما هو إلا بصمة أعمالنا في الحياة”.

 

  أعشق الجهاز المناعي وأهيم حباً في الخلابا المناعية، لأنني أرى في هذه الخلايا صفات فوقية تميزها عن باقي الخلايا بالجسد. فيكفي أن الخلايا المناعية دوارة متحركة تطوف الجسد بطولهِ وعرضهِ من الرأس حتى أخمص القدم باحثةً عن كل ما يُقلقُ سلامة الجسد ويهدده من أعداء، فتقضي عليهِ بمهارة ومهنية عالية دون أن تصيب الجسد بأي أضرار أثناء هذه المعارك. ليس هذا فحسب ولكن لهذه الخلايا قدرة على تذكر أي جسم غريب تعرفت عليهِ من شهور أو سنين.

  

  ومن شدة هذا العشق والهيام أطلقت على الجهاز المناعي “الجهاز السوبر” مقارنة بالأجهزة الأخرى بالجسم بما فيها الجهاز العصبي وذلك لقدرة الخلايا المناعية على الإنتقال والعراك والتذكر. وحتى أكون محايداً وعادلاً ،  الجهاز العصبي أيضاً يستحق أن نطلقَ عليهِ جهاز سوبر، خاصة أن الخلايا العصبية لها قدرة كبيرة ليس فقط على نقل الإشارات العصبية وترجمتها إلى ضحكات وآلام وصور وكلمات ولكن لأن أيضاً البعض منها له القدرة على تذكر الآلاف من الذكريات السعيدة منها والحزبنة وبطريقة لا سلكية.

 

  والقدرة على إسترجاع الذكريات بصورها وكلماتها ولغتها هي من إبداعات الجهاز العصبي والقدرة على تذكر الأعداء والتعامل معهم بقوة هي من أهم إبداعات الجهاز المناعي. ولذلك سوف يدور هذا المقال على هذه الخاصية الإبداعية لكلا الحهازين ولكن بطرقة مقارنه.

 

  الذاكرة هي إحدى قدرات الدماغ التي تُمكِّنه من تخزين المعلومات واسترجاعها. وتدرس الذاكرة في حقول علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب. وهناك عدة تصنيفات للذاكرة بناء على مدتها، طبيعتها واسترجاعها للحالات الشعورية. والذاكرة من الممكن تقسيمها إلى الذاكرة القصيرة جداً، الذاكرة القصيرة، الذاكرة الطويلة. وتستطيع الخلايا العصبية بالمخ بتذكر الماضي القريب والبعيد. و أن كانت لا تستطيع التذكر الأحداث في السن الصغيرة حتى ٢-٣ سنوات. وهذا التذكر خاص يالأحداث جميعاً أياً كان نوعها جسديةً كانت أو نفسية ولكن المخ يضع هذه الأحداث (الذكريات) على هيئة شريط سينيمائي تسجيلي لا يعود بالأحداث ولكن يشعر بها تماماً كما في الخيال العلمي. ولكن الشعور بالذكريات وبدون شك له تأثير إيجابي على الانفعالات الحاضرة لصاحب هذه الذكريات.

 

  ولكن هل حقاً الخلايا العصبية هي الوحيدة بالجسد القادرة على التذكر. قد يظن الكثير منا أنها بالفعل الوحيدة. ولكن بالطبع لا، فهناك خلايا أخرى تستطيع تذكر أحداث الماضي بقدرة هائلة وهي الخلايا المناعية. فقد نسمي التذكر الذي يحدث في الجهاز العصبي التذكر العصبي والآخر الذي يحدث بالجهاز المناعي بالتذكر المناعي. فإذا كان الأمر كذلك فما هي أوجه التشابه والاختلاف بين هذين النوعين من التذكر. وفيما يستخد كل منهما.

 

  في الواقع هناك بعض أوجه التشابه بين التذكر العصبي المنوط به تذكر الأحداث في صورها المرئية والسمعية بوقع نفسي والتذكر المناعي المنوط به تذكر الأجسام الغريبة المؤذية للجسم بوقع مادي. فكما أن هناك نوع محدد من الخلايا العصبية الذي يمتلك خاصية التذكر، كذلك التذكر في الجهاز المناعي محصور على نوع محدد من الخلايا المناعية يسمى  بالخلايا الليمفاوية بنوعيها التائية والبائية. كذلك فإن التذكر العصبي والمناعي لا يورث فالجنين يتلقي نصف جيناته من الحيوان المنوي من الآب والنصف الآخر من البويضة من الأم وذلك بعد خلطهما سوياً بالخلاط الجيني الذي نسميه التبادل الجيني والذي يتم فيه تبادل جينات بين الكروموسومات ليعطي الجنين صفات مختلفة عن الأب والأم. ولأن جينات الجنين تأتي من الحيوان المنوي والبويضة وليس من المخ أو الجهاز المناعي، تكون خلايا الجنين بلا ماضي مكود في جيناتها بل يبدأ حياته بنسخة جينية جديدة “فابريكا”.

  

     وقبل أن نتعرض للاختلافات بين الذاكرة العصبية والمناعية، دعونا نعرض أولاً إليهِ حدوثهما.

  

   ألية الذاكرة العصبية:

  اتضح أن المخ يعمل أثناء النوم بنشاط. ففي خلال النهار يقوم المخ بحفظ المعلومات في مخزن مؤقت، ثم يبدأ في تفصيلها وتجهيزها أثناء النوم لإيداعها في الذاكرة الطويلة. وفي الذاكرة الطويلة تنسّق المعلومات وتُربط مع معلومات أخرى سابقة. ويفرغ المخزن المؤقت معلوماته ويستطيع بذلك تخزين معلومات جديدة أثناء الصحيان عبارة عن معلومات وتأثيرات تتوالى عليه بسرعة كبيرة. ثم تأتي عملية تنسيق المعلومات والانطباعات في الذاكرة الطويلة التي يقوم بها المخ أثناء النوم تكون أحسن ما يمكن أثناء النوم العميق.

  

  والمهم في ذلك أن تكون المعلومات قد انتقلت من الذاكرة المؤقتة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة، إذ أن كل الانطباعات والمعلومات تخزن أولاً في الذاكرة القصيرة المؤقتة حيث ينشط تبادل إشارات كهربية بين نحو 100 مليار من الخلايا العصبية. وينشط كل انطباع مجموعة معينة من النيرونات. إلا أن الذاكرة القصيرة لها سعة محدودة على الاحتفاظ بالمعلومات بحيث تأخذ معلومات جديدة مكان معلومات قبلها مثل السبورة التي تكتب وتمسح ثم تُكتب من جديد.

 

   ويصل جزء قليل من تلك المعلومات والانطباعات إلى الذاكرة الطويلة، بينما يضيع الجزء الآخر ويُنسى. ولذلك هناك نوعين من النسيان: نوع تختفي معه المعلومات ونوع لا تكون المعلومات قد اختفت كلية وإنما يصعب التوصل إليها بسبب تراكم معلومات جديدة عليها.

 

 

  تخزن المعلومات والانطباعات فعلا في الذاكرة الطويلة وتترك أثراً مادياً في خلايا الدماغ. تنشأ ارتباطات جديدة بين الخلايا العصبية، وتزداد عدد الارتباطات في شبكة النويرونات. ويحتاج الدماغ نحو 48 ساعة لتخزين معلومات في الذاكرة الطويلة، ويتم جزءاً كبيراً من ذلك النشاط أثناء النوم. فقد ثبت بالبحث العلمي وجود مراكز متعددة في الدماغ لتخزين إشارات السمع و البصر والحواس الأخرى مثل حاسة التذوق.

   

  ويقوم هرمون معين يسمى “دوبامين” بدور رئيسي في عملية التخزين. وهو مادة ناقلة في الدماغ ويسمى أحياناً “هرمون السعادة” يفرز بغزارة لتشجيعنا على حل المسائل والمداومة على تعلم الجديد. ويعطينا شعورا بالرضاء عند تغلبنا على مسألة عويصة. ويقوم الدوبامين بنقل المعلومات بين الخلايا العصبية ويحفز النشاط العقلي. وتحت تأثير هذا الهرمون تصل المعلومات من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة وتخزن فيها بسهولة.

   

   ألية الذاكرة المناعية:

  تجوب الخلايا المناعية الدم و الأنسجة المناعية الأساسية وهي الطحال و العقد الليمفاوية و نخاع العظم وكذلك الأنسجة الغير مناعية ليلاً و نهاراً بحثاً عن أي ميكروب رأته لأول مرة. فإذا تصادف وشعرت بوجود جسم غريب مُقَدَم على سطح خلية مناعية أخرى وظيفتها الأساسية الإمساك بالجسم الغريب والقبض عليهِ وتقديمهِ إلى الخلية المناعية القادرة على التعامل معه بمهنية عالية، تتوقف الخليه المناعية على الفور وتمد مستقبلاتها (زوائدها) المنتشرة على سطحها لتلامس الجسم الغريب الموجود على الخلية الأخرى ثم تمد زائدة أخرى على اليمين وأخرى على الشمال لتكون مثلث الرعب الذي يحيط بالجسم الغريب تماماً.

 

  حينئذ تسحب الخلية المناعية نفسها بعد أن حصلت على المعلومات عن هذا الجسم الغريب ثم تبدأ في البحث عنه على أي خلية بالجسد قد تكون أصيبت بهذا الجسم الغريب. حينئذٍ تبدأ الخلية المناعية على الفور وفي خلال دقائق من إفراز مواد كاوبة تحقنها في الخلية المصابة والحاملة للجسم الغريب بدقة تصويب عالية. وبعد هذه المعركة تموت معظم الخلايا المناعية ويبقي عدد قليل منه قادر على تذكر هذا الجسم الغريب. وإذا تصادف وأن رأت نفس هذا الجسم الغريب مرة أخرى ولو بعد عشرات السنين تتذكره و تبدأ على الفور في التعامل معه والقضاء عليهِ.  ولا تستغرق هذه المراحل سوى ساعات إلى ٤٨ ساعة وذلك عكس الفترة الطويلة التي قد تمتد لأسبوعين إذا كانت ترى هذا الجسم الغريب أول مرة.

 

  

   هل هناك فرق بين الذاكرة المناعية والعصبية؟

 هناك العديد من الاختلافات بين خاصية التذكر العصبي والمناعي ممكن تلخيص معظمها في العشر إختلافات الآتية.

 

   الاختلاف الأول:

  ماتتذكره الخلايا المناعية ليس نفسياً بل مادياً حيث أنها تستطيع التعرف على أي جسم غريب رأته وتعاملت معه من قبل سواء بأسابيع أو شهور أو سنين. فمع أن الخلايا المناعية تستطيع أن تتعامل مع المؤثرات النفسية عن طريق التفاعل مع الهرمونات المتحكمة في هذه المؤثرات وذلك من خلال امتلاكها لمستقبلات على سطحها ترتبط بهذه الهرمونات، إلا أنها لا تتذكر المؤثرات النفسية مرة أخرى ببساطة لأن المؤثر ليس بشئ مادي محسوس. وبالطبع العكس تماماً مع حالة التذكر التي تتمتع بها الخلايا العصبية حيث تتذكر الأحداث بطريقة معنوبة وليست مادية.

 

   الاختلاف الثاني:

  ذاكرة الخلايا المناعية موقوته بمعني أنها لا تتذكر إلا إذا رأت الجسم الغريب نفسه رؤى العين ولذلك أطلقنا عليهِ تذكراً مادياً وليس معنوياً. أما تذكر الخلايا العصبية فهو غير موقوت فقد يحدث في أي وقت يطلبه الشخص فتستجيب الخلايا العصبية فوراً وتعرض شريط الأحداث بدقة بقدر المستطاع إلا في حالة الإصابة ببعض الأمراض مثل ألزهايمر.

  

   الاختلاف الثالث:

  تذكر الخلايا العصبية يزداد بعد سن الطفولة وذلك لأن الخلايا العصبية الجديدة التي تنمو في مرحلة الطفولة لا تحتفظ بالأحداث لفترة طويلة علاوة على أنها عند تكونها لا تحتوي إلا على الأحدلث التي تعرضت لها. ومع توقف نمو الخلايا العصبية الجديدة بعد الولادة بسنة أو سنتين تستقر الذاكرة للإنسان وتزداد وتكون تحت الطلب أينما سألت. وقد يفسر ذلك حالة النسيان التي تنتاب المرضي الذين يتعاطون أدوية مضادة للإكتئاب مثل بروزيك والذي يعمل على نمو خلايا عصبية جدييدة عند الكبار.    

 

   الاختلاف الرابع:

  التذكر عند الخلايا العصبية أوتوماتيكي ولا يحتاج إلى تفاعل هذه الخلايا مع أي عوامل خارجية بل هي مبرمجة على التذكر أينما طلب كخاصية ذاتية كامنة فيها وإن كانت كيفية قيام الخلايا العصبية بالإحتفاظ بشريط الذكريات هذا غير واضح. ولكن هذا لا ينفي بالطبع مايتبع من تغيرات جسدية نتيجة حالة التذكر من حيث نوع الحدث سعيداً أم حزيناً وطول الحدث وترابطه وإرتباطه بأحداث أخرى سواء متزمامناً في الفترة الزمنية نفسها أو في فترة سابقة أو لاحقة لهذا الحدث. ومع أن تذكر الخلايا المناعية أتوماتيكي إلا أن شرط حدوثه يتطلب تفاعل الخلايا المناعية مع جسم غريب محمولاً بخلايا مناعية أخرى. كما أن قدرة الخلايا المناعية على التذكر متخصصة جداً بمعني أن كل خلية مناعية متخصصة في التعامل مع نوع واحد من الأجسام الغريبة وبالتالي لا تتذكر إلا نفس الجسم عند رؤيته مرة أخرى ولا تتعامل ولا تتذكر أي جسم غريب آخر قد يتزامن وجوده.

  

   الاختلاف الخامس:

  التذكر لدي الخلايا العصبية لا سلكي فهو يحدث استجابة لمؤثرات نفسية قد تأتي عن عمد أو غير عمد بحيث نستطيع أن نقسم التذكر العصبي مجازاً إلى تذكر إيجابي وأخر سلبي. والإيجابي يحدث عندا يحتاج أي منا تحت ظرف ما الرجوع إلى الماضي وعادة ما يحدث ذلك عند الحاجة إلى معلومات معينة نريد إستخدامها الآن سواء لنا أو لغيرنا. كما أنه قد يحدث عند التعرض لموقف نفسي معين في الحاضر فيحتاج الإنسان إلى ربط ما يحدث بأحداث الماضي كنوع من الفكر الإستقرائي أو قد يكون لمجرد الإرتياح النفسي.

 

  أما التذكر السلبي فقد يأتي دون الحاجة إليه، بمعني أن يحدث عرضياً وليس عمدا ً كما في الإيجابي. وعادةً ما يحدث التذكر السلبي أثناء التحدث مع الآخر وتحوله إلى أحداث بالماضي فيستجيب المستمع تلقائيا إلى الحال القائم ويتفاعل بالمثل خاصة إذا كانت هناك أحداث مشتركة بين المستمع والآخر. أما التذكر لدي الخلايا المناعية فهو إيجابي دائماً حيث أنه لا يحدث على الإطلاق إلا إذا وجد السبب ، فهي علاقة سببية على طول الخط.

  

   الاختلاف السادس:

  التذكر عند الخلايا المناعية ممكن حثة وإستحداثه أو بمعني آخر دفع الخلايا المناعية للتعرف على أجسام غريبة محددة لتذكرها فيما بعد. وقد أشبه هذا التذكر بالآمر بمعني إعطاء أوامر للخلايا أن تتذكر جسم ما وذلك بدفعها للتعرض إلىه مسبقاً. وهذا ما يحدث تماماً أثناء التطعيم المناعي للأطفال ضد البكتيريا والفيروسات حيث يتم حقنهم بالأجسام الميتة أو المستضعفة لهذه الميكروبات عنوة لتتفاعل معها وذلك بغرض تذكرها فيما بعد إذا حدثت عدوى ميكروبية من نفس النوع. أما التذكر لدي الخلايا العصبية فيحدث طبيعيا ولا يحث. وان كان هناك بعض النظريات التي تتبني فكرة وضع الشخص في ظروف معينة لا يتوقعها وأحيانا لا يرغب فيها فقط لجعله قادراً على التعامل مستقبلاً مع نفس الحالة وتذكر أحداثها، النظرية التي تشبه التطعيم المناعي ضد الميكروبات لدي الأطفال.

 

  الاختلاف السابع:

  التذكر المناعي يحدث بعد الإنتقاء الطبيعي وذلك حيث أن حوإلى ٩٥٪ من الخلايا المناعية تموت بعد تعرفها على الجسم الغريب والتعامل معه والتخلص منه والباقي يعيش طوال العمر ويبقي دواراً في الجسد حتى إذا تصادف ووجد نفس الجسم الغريب هنا أو هناك تذكره على الفور وتعامل معه. أما التذكر العصبي فلا تنطبق عليهِ نظرية الإنتقاء الطبيعي هذه لأن الخلايا العصبية بالمخ القادرة على التذكر تبقي جميعا طوال العمر بلا تغيير (إلا إذا حدث خلل مرضي). ولذلك فتذكرها للأحداث تراكمي حيث أنها تخزن الأحداث مرة بعد الأخرى بداخلها عكس التذكر الفردي في الخلايا المناعية حيث تتذكر كل خليه نوعاً واحداً فقط من الأحداث. 

     

  الاختلاف الثامن:

  التذكر العصبي لا يصاحبه تأقيرات مادية مباشرة كما في التذكر المناعي والذي يصاحبه عراك وقتال وموت الخلايا المصابة بعد حالة من الهياج المناعي الذي قد يصاحب بإرتفاع في درجة حرارة الجسم وحدوث تقرحات. وبالطبع هذا لا يمنع أن التذكر العصبي يؤثر بطريقة غير مباشرة على وظائف الخلايا بالجسم.

 

  الاختلاف التاسع:

  ألية استقبال المؤثرات التي تدعو للذاكرة تختلف في التذكر المناعي عن العصبي من حيث نوعية المستقبلات والفترة ونوعية النواتج.  ففي حالة التذكر المناعي الأمر يبدأ وينتهي بطريقة إليهِ حيث تجوب الخلايا المناعية الجسم ليلاً و نهاراً بحثاً عن أي ميكروب. فإذا كانت قد رأته من قبل تبدأ الخلية على الفور وفي خلال دقائق بالتعرف عليهِ والإشتراك معه والقضاء عليهِ. وتستغرق هذه المراحل فترة لاتزيد عن ٤٨ ساعة. ولذلك فالتذكر المناعي للجسم الغريب يتطلب مايشبه تلامس الأكتاف مع الجسم الغريب ويؤدي إلى تنشيط الخلية وسرعة أدائها في قتل العدو. أما في حالة التذكر العصبي فالوضع مختلف لأنه لا يحتاج إلى تلامس أكتاف ولكن تلامس أفكار بطريقة لا سلكية ولا يستغرق إلا ثوان ومنتجاته غير قاتلة فهي مجرد صور وأصوات لا نراها إلا بداخل عقلنا دون أن تشاهدها العين أو تسمعها الأذن ولكن يشعر بها القلب وينفعل بها ولها ويتعايش معها العقل. اذاً التذكر العصبي لا يتطلب سوى ذكر مصطلح افتح يا سمسم (تذكر يا سمسم) فهو لاسلكي. والطرق اللاسلكية لاستقبال المؤثرات التي قد تكون كلمات مقروءة او مسموعة أو بالاشارة.

     

   الاختلاف العاشر:

  القدرة على التذكر المناعي ممكن نقلها من شخص لآخر بشرط نقل الخلايا نفسها أو أحد منتجاتها من الشخص الذي تعرض للجسم الغريب إلى شخص آخر ولو لم يكن قد تعرض لهذا الجسم. أما التذكر العصبي فلا يمكن نقل مكوناته على الإطلاق ولكن من الممكن أن يؤدي إلى حث الآخر على تذكر أحداث متشابه قد تزامن حدوثها في حياة شخص أخر.

 

   الخلاصة:

  تكمن روعة الجهاز العصبي في قدرته على الإحساس والشعور اللحظي التلقائي ليجعلنا ندرك البيئة الداخلية بداخلنا و بـالبيئة الخارجية ليستقبلها وينقلها إلى البيئة الداخلية وتخزينها على هيئة طبقات من الذكريات بأبعادها الثلاث أو الأربع أو الخمس أو ما لا لم ندركه بعد من أبعاد  لتعمل النفس وتتفاعل بإبداع في الحاضر مع قدرة استدعاء الماضي بذكرياته والتخطيط والتنبؤ بالمستقبل القريب والبعيد.

 

  وتكمن روعة الجهاز المناعي في قدرتة الهائلة على التعرف وادراك الأجسام الغريبة ببيئتنا الداخلية والخارجية وتمييزها عن ما يتبعنا والزود عن أجسادنا بإخلاص وإصرار عجيب حتى يقضي على العدو ويتخلص من رفاته مع قدرة غير عادية على تذكر هذا الغريب والإنقضاض عليهِ بسرعة فائقة إذا رآه مرة أخرى بذاكرة حديدية.

 

  خريطة بيولوجية الإنسان أكثر من رائعة وزعت فيها السهول والهضاب والأنهار والبحار توزيعاً آية في الجمال والإبداع، يجعل من النفس البشرية وعاءً مستقراً يفيض بذكريات تلطف وتحمي حرور صحراء الإنسان نفسياً ومعنوياً بذاكرة الجهاز العصبي ومادياً بذاكرة الجهاز المناعي.

 

 الأجهزة في الجسم كأجهزة الدولة في مجتمعاتنا، لعلنا بفهمنا لألية عملها والحفاظ عليهِا و حمايتها من العطب تبقى دائماً رائعة كما خلقها الله.

ومع أن الجنبن خُلِق مناصفة من جينات الأب والأم ، إلا أنه يولد بجينات “فابريكا” لا تحمل أي ذكريات حتى يصنع ماضيه بنفسه ، فالماضي لا يورث فما هو إلا بصمة أعمالنا في الحياة”.

 

  أعشق الجهاز المناعي وأهيم حباً في الخلابا المناعية، لأنني أرى في هذه الخلايا صفات فوقية تميزها عن باقي الخلايا بالجسد. فيكفي أن الخلايا المناعية دوارة متحركة تطوف الجسد بطولهِ وعرضهِ من الرأس حتى أخمص القدم باحثةً عن كل ما يُقلقُ سلامة الجسد ويهدده من أعداء، فتقضي عليهِ بمهارة ومهنية عالية دون أن تصيب الجسد بأي أضرار أثناء هذه المعارك. ليس هذا فحسب ولكن لهذه الخلايا قدرة على تذكر أي جسم غريب تعرفت عليهِ من شهور أو سنين.

  

  ومن شدة هذا العشق والهيام أطلقت على الجهاز المناعي “الجهاز السوبر” مقارنة بالأجهزة الأخرى بالجسم بما فيها الجهاز العصبي وذلك لقدرة الخلايا المناعية على الإنتقال والعراك والتذكر. وحتى أكون محايداً وعادلاً ،  الجهاز العصبي أيضاً يستحق أن نطلقَ عليهِ جهاز سوبر، خاصة أن الخلايا العصبية لها قدرة كبيرة ليس فقط على نقل الإشارات العصبية وترجمتها إلى ضحكات وآلام وصور وكلمات ولكن لأن أيضاً البعض منها له القدرة على تذكر الآلاف من الذكريات السعيدة منها والحزبنة وبطريقة لا سلكية.

 

  والقدرة على إسترجاع الذكريات بصورها وكلماتها ولغتها هي من إبداعات الجهاز العصبي والقدرة على تذكر الأعداء والتعامل معهم بقوة هي من أهم إبداعات الجهاز المناعي. ولذلك سوف يدور هذا المقال على هذه الخاصية الإبداعية لكلا الحهازين ولكن بطرقة مقارنه.

 

  الذاكرة هي إحدى قدرات الدماغ التي تُمكِّنه من تخزين المعلومات واسترجاعها. وتدرس الذاكرة في حقول علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب. وهناك عدة تصنيفات للذاكرة بناء على مدتها، طبيعتها واسترجاعها للحالات الشعورية. والذاكرة من الممكن تقسيمها إلى الذاكرة القصيرة جداً، الذاكرة القصيرة، الذاكرة الطويلة. وتستطيع الخلايا العصبية بالمخ بتذكر الماضي القريب والبعيد. و أن كانت لا تستطيع التذكر الأحداث في السن الصغيرة حتى ٢-٣ سنوات. وهذا التذكر خاص يالأحداث جميعاً أياً كان نوعها جسديةً كانت أو نفسية ولكن المخ يضع هذه الأحداث (الذكريات) على هيئة شريط سينيمائي تسجيلي لا يعود بالأحداث ولكن يشعر بها تماماً كما في الخيال العلمي. ولكن الشعور بالذكريات وبدون شك له تأثير إيجابي على الانفعالات الحاضرة لصاحب هذه الذكريات.

 

  ولكن هل حقاً الخلايا العصبية هي الوحيدة بالجسد القادرة على التذكر. قد يظن الكثير منا أنها بالفعل الوحيدة. ولكن بالطبع لا، فهناك خلايا أخرى تستطيع تذكر أحداث الماضي بقدرة هائلة وهي الخلايا المناعية. فقد نسمي التذكر الذي يحدث في الجهاز العصبي التذكر العصبي والآخر الذي يحدث بالجهاز المناعي بالتذكر المناعي. فإذا كان الأمر كذلك فما هي أوجه التشابه والاختلاف بين هذين النوعين من التذكر. وفيما يستخد كل منهما.

 

  في الواقع هناك بعض أوجه التشابه بين التذكر العصبي المنوط به تذكر الأحداث في صورها المرئية والسمعية بوقع نفسي والتذكر المناعي المنوط به تذكر الأجسام الغريبة المؤذية للجسم بوقع مادي. فكما أن هناك نوع محدد من الخلايا العصبية الذي يمتلك خاصية التذكر، كذلك التذكر في الجهاز المناعي محصور على نوع محدد من الخلايا المناعية يسمى  بالخلايا الليمفاوية بنوعيها التائية والبائية. كذلك فإن التذكر العصبي والمناعي لا يورث فالجنين يتلقي نصف جيناته من الحيوان المنوي من الآب والنصف الآخر من البويضة من الأم وذلك بعد خلطهما سوياً بالخلاط الجيني الذي نسميه التبادل الجيني والذي يتم فيه تبادل جينات بين الكروموسومات ليعطي الجنين صفات مختلفة عن الأب والأم. ولأن جينات الجنين تأتي من الحيوان المنوي والبويضة وليس من المخ أو الجهاز المناعي، تكون خلايا الجنين بلا ماضي مكود في جيناتها بل يبدأ حياته بنسخة جينية جديدة “فابريكا”.

  

     وقبل أن نتعرض للاختلافات بين الذاكرة العصبية والمناعية، دعونا نعرض أولاً إليهِ حدوثهما.

  

   ألية الذاكرة العصبية:

  اتضح أن المخ يعمل أثناء النوم بنشاط. ففي خلال النهار يقوم المخ بحفظ المعلومات في مخزن مؤقت، ثم يبدأ في تفصيلها وتجهيزها أثناء النوم لإيداعها في الذاكرة الطويلة. وفي الذاكرة الطويلة تنسّق المعلومات وتُربط مع معلومات أخرى سابقة. ويفرغ المخزن المؤقت معلوماته ويستطيع بذلك تخزين معلومات جديدة أثناء الصحيان عبارة عن معلومات وتأثيرات تتوالى عليه بسرعة كبيرة. ثم تأتي عملية تنسيق المعلومات والانطباعات في الذاكرة الطويلة التي يقوم بها المخ أثناء النوم تكون أحسن ما يمكن أثناء النوم العميق.

  

  والمهم في ذلك أن تكون المعلومات قد انتقلت من الذاكرة المؤقتة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة، إذ أن كل الانطباعات والمعلومات تخزن أولاً في الذاكرة القصيرة المؤقتة حيث ينشط تبادل إشارات كهربية بين نحو 100 مليار من الخلايا العصبية. وينشط كل انطباع مجموعة معينة من النيرونات. إلا أن الذاكرة القصيرة لها سعة محدودة على الاحتفاظ بالمعلومات بحيث تأخذ معلومات جديدة مكان معلومات قبلها مثل السبورة التي تكتب وتمسح ثم تُكتب من جديد.

 

   ويصل جزء قليل من تلك المعلومات والانطباعات إلى الذاكرة الطويلة، بينما يضيع الجزء الآخر ويُنسى. ولذلك هناك نوعين من النسيان: نوع تختفي معه المعلومات ونوع لا تكون المعلومات قد اختفت كلية وإنما يصعب التوصل إليها بسبب تراكم معلومات جديدة عليها.

 

 

  تخزن المعلومات والانطباعات فعلا في الذاكرة الطويلة وتترك أثراً مادياً في خلايا الدماغ. تنشأ ارتباطات جديدة بين الخلايا العصبية، وتزداد عدد الارتباطات في شبكة النويرونات. ويحتاج الدماغ نحو 48 ساعة لتخزين معلومات في الذاكرة الطويلة، ويتم جزءاً كبيراً من ذلك النشاط أثناء النوم. فقد ثبت بالبحث العلمي وجود مراكز متعددة في الدماغ لتخزين إشارات السمع و البصر والحواس الأخرى مثل حاسة التذوق.

   

  ويقوم هرمون معين يسمى “دوبامين” بدور رئيسي في عملية التخزين. وهو مادة ناقلة في الدماغ ويسمى أحياناً “هرمون السعادة” يفرز بغزارة لتشجيعنا على حل المسائل والمداومة على تعلم الجديد. ويعطينا شعورا بالرضاء عند تغلبنا على مسألة عويصة. ويقوم الدوبامين بنقل المعلومات بين الخلايا العصبية ويحفز النشاط العقلي. وتحت تأثير هذا الهرمون تصل المعلومات من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة وتخزن فيها بسهولة.

   

   ألية الذاكرة المناعية:

  تجوب الخلايا المناعية الدم و الأنسجة المناعية الأساسية وهي الطحال و العقد الليمفاوية و نخاع العظم وكذلك الأنسجة الغير مناعية ليلاً و نهاراً بحثاً عن أي ميكروب رأته لأول مرة. فإذا تصادف وشعرت بوجود جسم غريب مُقَدَم على سطح خلية مناعية أخرى وظيفتها الأساسية الإمساك بالجسم الغريب والقبض عليهِ وتقديمهِ إلى الخلية المناعية القادرة على التعامل معه بمهنية عالية، تتوقف الخليه المناعية على الفور وتمد مستقبلاتها (زوائدها) المنتشرة على سطحها لتلامس الجسم الغريب الموجود على الخلية الأخرى ثم تمد زائدة أخرى على اليمين وأخرى على الشمال لتكون مثلث الرعب الذي يحيط بالجسم الغريب تماماً.

 

  حينئذ تسحب الخلية المناعية نفسها بعد أن حصلت على المعلومات عن هذا الجسم الغريب ثم تبدأ في البحث عنه على أي خلية بالجسد قد تكون أصيبت بهذا الجسم الغريب. حينئذٍ تبدأ الخلية المناعية على الفور وفي خلال دقائق من إفراز مواد كاوبة تحقنها في الخلية المصابة والحاملة للجسم الغريب بدقة تصويب عالية. وبعد هذه المعركة تموت معظم الخلايا المناعية ويبقي عدد قليل منه قادر على تذكر هذا الجسم الغريب. وإذا تصادف وأن رأت نفس هذا الجسم الغريب مرة أخرى ولو بعد عشرات السنين تتذكره و تبدأ على الفور في التعامل معه والقضاء عليهِ.  ولا تستغرق هذه المراحل سوى ساعات إلى ٤٨ ساعة وذلك عكس الفترة الطويلة التي قد تمتد لأسبوعين إذا كانت ترى هذا الجسم الغريب أول مرة.

 

  

   هل هناك فرق بين الذاكرة المناعية والعصبية؟

 هناك العديد من الاختلافات بين خاصية التذكر العصبي والمناعي ممكن تلخيص معظمها في العشر إختلافات الآتية.

 

   الاختلاف الأول:

  ماتتذكره الخلايا المناعية ليس نفسياً بل مادياً حيث أنها تستطيع التعرف على أي جسم غريب رأته وتعاملت معه من قبل سواء بأسابيع أو شهور أو سنين. فمع أن الخلايا المناعية تستطيع أن تتعامل مع المؤثرات النفسية عن طريق التفاعل مع الهرمونات المتحكمة في هذه المؤثرات وذلك من خلال امتلاكها لمستقبلات على سطحها ترتبط بهذه الهرمونات، إلا أنها لا تتذكر المؤثرات النفسية مرة أخرى ببساطة لأن المؤثر ليس بشئ مادي محسوس. وبالطبع العكس تماماً مع حالة التذكر التي تتمتع بها الخلايا العصبية حيث تتذكر الأحداث بطريقة معنوبة وليست مادية.

 

   الاختلاف الثاني:

  ذاكرة الخلايا المناعية موقوته بمعني أنها لا تتذكر إلا إذا رأت الجسم الغريب نفسه رؤى العين ولذلك أطلقنا عليهِ تذكراً مادياً وليس معنوياً. أما تذكر الخلايا العصبية فهو غير موقوت فقد يحدث في أي وقت يطلبه الشخص فتستجيب الخلايا العصبية فوراً وتعرض شريط الأحداث بدقة بقدر المستطاع إلا في حالة الإصابة ببعض الأمراض مثل ألزهايمر.

  

   الاختلاف الثالث:

  تذكر الخلايا العصبية يزداد بعد سن الطفولة وذلك لأن الخلايا العصبية الجديدة التي تنمو في مرحلة الطفولة لا تحتفظ بالأحداث لفترة طويلة علاوة على أنها عند تكونها لا تحتوي إلا على الأحدلث التي تعرضت لها. ومع توقف نمو الخلايا العصبية الجديدة بعد الولادة بسنة أو سنتين تستقر الذاكرة للإنسان وتزداد وتكون تحت الطلب أينما سألت. وقد يفسر ذلك حالة النسيان التي تنتاب المرضي الذين يتعاطون أدوية مضادة للإكتئاب مثل بروزيك والذي يعمل على نمو خلايا عصبية جدييدة عند الكبار.    

 

   الاختلاف الرابع:

  التذكر عند الخلايا العصبية أوتوماتيكي ولا يحتاج إلى تفاعل هذه الخلايا مع أي عوامل خارجية بل هي مبرمجة على التذكر أينما طلب كخاصية ذاتية كامنة فيها وإن كانت كيفية قيام الخلايا العصبية بالإحتفاظ بشريط الذكريات هذا غير واضح. ولكن هذا لا ينفي بالطبع مايتبع من تغيرات جسدية نتيجة حالة التذكر من حيث نوع الحدث سعيداً أم حزيناً وطول الحدث وترابطه وإرتباطه بأحداث أخرى سواء متزمامناً في الفترة الزمنية نفسها أو في فترة سابقة أو لاحقة لهذا الحدث. ومع أن تذكر الخلايا المناعية أتوماتيكي إلا أن شرط حدوثه يتطلب تفاعل الخلايا المناعية مع جسم غريب محمولاً بخلايا مناعية أخرى. كما أن قدرة الخلايا المناعية على التذكر متخصصة جداً بمعني أن كل خلية مناعية متخصصة في التعامل مع نوع واحد من الأجسام الغريبة وبالتالي لا تتذكر إلا نفس الجسم عند رؤيته مرة أخرى ولا تتعامل ولا تتذكر أي جسم غريب آخر قد يتزامن وجوده.

  

   الاختلاف الخامس:

  التذكر لدي الخلايا العصبية لا سلكي فهو يحدث استجابة لمؤثرات نفسية قد تأتي عن عمد أو غير عمد بحيث نستطيع أن نقسم التذكر العصبي مجازاً إلى تذكر إيجابي وأخر سلبي. والإيجابي يحدث عندا يحتاج أي منا تحت ظرف ما الرجوع إلى الماضي وعادة ما يحدث ذلك عند الحاجة إلى معلومات معينة نريد إستخدامها الآن سواء لنا أو لغيرنا. كما أنه قد يحدث عند التعرض لموقف نفسي معين في الحاضر فيحتاج الإنسان إلى ربط ما يحدث بأحداث الماضي كنوع من الفكر الإستقرائي أو قد يكون لمجرد الإرتياح النفسي.

 

  أما التذكر السلبي فقد يأتي دون الحاجة إليه، بمعني أن يحدث عرضياً وليس عمدا ً كما في الإيجابي. وعادةً ما يحدث التذكر السلبي أثناء التحدث مع الآخر وتحوله إلى أحداث بالماضي فيستجيب المستمع تلقائيا إلى الحال القائم ويتفاعل بالمثل خاصة إذا كانت هناك أحداث مشتركة بين المستمع والآخر. أما التذكر لدي الخلايا المناعية فهو إيجابي دائماً حيث أنه لا يحدث على الإطلاق إلا إذا وجد السبب ، فهي علاقة سببية على طول الخط.

  

   الاختلاف السادس:

  التذكر عند الخلايا المناعية ممكن حثة وإستحداثه أو بمعني آخر دفع الخلايا المناعية للتعرف على أجسام غريبة محددة لتذكرها فيما بعد. وقد أشبه هذا التذكر بالآمر بمعني إعطاء أوامر للخلايا أن تتذكر جسم ما وذلك بدفعها للتعرض إلىه مسبقاً. وهذا ما يحدث تماماً أثناء التطعيم المناعي للأطفال ضد البكتيريا والفيروسات حيث يتم حقنهم بالأجسام الميتة أو المستضعفة لهذه الميكروبات عنوة لتتفاعل معها وذلك بغرض تذكرها فيما بعد إذا حدثت عدوى ميكروبية من نفس النوع. أما التذكر لدي الخلايا العصبية فيحدث طبيعيا ولا يحث. وان كان هناك بعض النظريات التي تتبني فكرة وضع الشخص في ظروف معينة لا يتوقعها وأحيانا لا يرغب فيها فقط لجعله قادراً على التعامل مستقبلاً مع نفس الحالة وتذكر أحداثها، النظرية التي تشبه التطعيم المناعي ضد الميكروبات لدي الأطفال.

 

  الاختلاف السابع:

  التذكر المناعي يحدث بعد الإنتقاء الطبيعي وذلك حيث أن حوإلى ٩٥٪ من الخلايا المناعية تموت بعد تعرفها على الجسم الغريب والتعامل معه والتخلص منه والباقي يعيش طوال العمر ويبقي دواراً في الجسد حتى إذا تصادف ووجد نفس الجسم الغريب هنا أو هناك تذكره على الفور وتعامل معه. أما التذكر العصبي فلا تنطبق عليهِ نظرية الإنتقاء الطبيعي هذه لأن الخلايا العصبية بالمخ القادرة على التذكر تبقي جميعا طوال العمر بلا تغيير (إلا إذا حدث خلل مرضي). ولذلك فتذكرها للأحداث تراكمي حيث أنها تخزن الأحداث مرة بعد الأخرى بداخلها عكس التذكر الفردي في الخلايا المناعية حيث تتذكر كل خليه نوعاً واحداً فقط من الأحداث. 

     

  الاختلاف الثامن:

  التذكر العصبي لا يصاحبه تأقيرات مادية مباشرة كما في التذكر المناعي والذي يصاحبه عراك وقتال وموت الخلايا المصابة بعد حالة من الهياج المناعي الذي قد يصاحب بإرتفاع في درجة حرارة الجسم وحدوث تقرحات. وبالطبع هذا لا يمنع أن التذكر العصبي يؤثر بطريقة غير مباشرة على وظائف الخلايا بالجسم.

 

  الاختلاف التاسع:

  ألية استقبال المؤثرات التي تدعو للذاكرة تختلف في التذكر المناعي عن العصبي من حيث نوعية المستقبلات والفترة ونوعية النواتج.  ففي حالة التذكر المناعي الأمر يبدأ وينتهي بطريقة إليهِ حيث تجوب الخلايا المناعية الجسم ليلاً و نهاراً بحثاً عن أي ميكروب. فإذا كانت قد رأته من قبل تبدأ الخلية على الفور وفي خلال دقائق بالتعرف عليهِ والإشتراك معه والقضاء عليهِ. وتستغرق هذه المراحل فترة لاتزيد عن ٤٨ ساعة. ولذلك فالتذكر المناعي للجسم الغريب يتطلب مايشبه تلامس الأكتاف مع الجسم الغريب ويؤدي إلى تنشيط الخلية وسرعة أدائها في قتل العدو. أما في حالة التذكر العصبي فالوضع مختلف لأنه لا يحتاج إلى تلامس أكتاف ولكن تلامس أفكار بطريقة لا سلكية ولا يستغرق إلا ثوان ومنتجاته غير قاتلة فهي مجرد صور وأصوات لا نراها إلا بداخل عقلنا دون أن تشاهدها العين أو تسمعها الأذن ولكن يشعر بها القلب وينفعل بها ولها ويتعايش معها العقل. اذاً التذكر العصبي لا يتطلب سوى ذكر مصطلح افتح يا سمسم (تذكر يا سمسم) فهو لاسلكي. والطرق اللاسلكية لاستقبال المؤثرات التي قد تكون كلمات مقروءة او مسموعة أو بالاشارة.

     

   الاختلاف العاشر:

  القدرة على التذكر المناعي ممكن نقلها من شخص لآخر بشرط نقل الخلايا نفسها أو أحد منتجاتها من الشخص الذي تعرض للجسم الغريب إلى شخص آخر ولو لم يكن قد تعرض لهذا الجسم. أما التذكر العصبي فلا يمكن نقل مكوناته على الإطلاق ولكن من الممكن أن يؤدي إلى حث الآخر على تذكر أحداث متشابه قد تزامن حدوثها في حياة شخص أخر.

 

   الخلاصة:

  تكمن روعة الجهاز العصبي في قدرته على الإحساس والشعور اللحظي التلقائي ليجعلنا ندرك البيئة الداخلية بداخلنا و بـالبيئة الخارجية ليستقبلها وينقلها إلى البيئة الداخلية وتخزينها على هيئة طبقات من الذكريات بأبعادها الثلاث أو الأربع أو الخمس أو ما لا لم ندركه بعد من أبعاد  لتعمل النفس وتتفاعل بإبداع في الحاضر مع قدرة استدعاء الماضي بذكرياته والتخطيط والتنبؤ بالمستقبل القريب والبعيد.

 

  وتكمن روعة الجهاز المناعي في قدرتة الهائلة على التعرف وادراك الأجسام الغريبة ببيئتنا الداخلية والخارجية وتمييزها عن ما يتبعنا والزود عن أجسادنا بإخلاص وإصرار عجيب حتى يقضي على العدو ويتخلص من رفاته مع قدرة غير عادية على تذكر هذا الغريب والإنقضاض عليهِ بسرعة فائقة إذا رآه مرة أخرى بذاكرة حديدية.

 

  خريطة بيولوجية الإنسان أكثر من رائعة وزعت فيها السهول والهضاب والأنهار والبحار توزيعاً آية في الجمال والإبداع، يجعل من النفس البشرية وعاءً مستقراً يفيض بذكريات تلطف وتحمي حرور صحراء الإنسان نفسياً ومعنوياً بذاكرة الجهاز العصبي ومادياً بذاكرة الجهاز المناعي.

 

 الأجهزة في الجسم كأجهزة الدولة في مجتمعاتنا، لعلنا بفهمنا لألية عملها والحفاظ عليهِا و حمايتها من العطب تبقى دائماً رائعة كما خلقها الله.