ما تكشفه البيانات المتاحة عن فعالية الكمامات

تدعم الأسانيد العلمية فكرة إسهام الكمامات في إنقاذ حياة البشر. ومع ذلك.. ما زال هناك جدلٌ لا ينتهي حول فعاليتها. فكَمْ نحتاج من الأدلة، كي نحسم هذه المسألة؟

حين اقترح زملاء كريستين بِن الدنماركيون لأوّل مرّة توزيع كماماتٍ قماشية واقية على المواطنين في جمهورية غينيا بيساو، لوقف انتشار فيروس كورونا الجديد في هذا البلد الأفريقي، لم تكن كريستين متيقنةً من جدوى تلك الخطوة. تعمل بِن باحثة، متخصصة في الصحة العالمية بجامعة جنوب الدنمارك في كوبنهاجن، وقد شاركت لعقودٍ في قيادة حملات الصحة العامة بهذا البلد الواقع في غرب أفريقيا، الذي يُعَدُّ أحد أفقر دول العالم. وإزاء اقتراح زملائها هذا، قالت: “حسنًا، قد يكون ذلك مفيدًا، لكنَّ البيانات التي تجزم بفعالية الكمامات محدودة”.

حدث ذلك في مارس الماضي، لكن بحلول شهر يوليو، كانت بِن وأفراد فريقها البحثي قد توصَّلوا إلى طريقةٍ يتسنَّى لهم بها توفير بعض البيانات الضرورية عن الكمامات، ومساعدة الناس في غينيا بيساو كما يأملون. فوزَّع الفريق على المواطنين آلافًا من الكمامات القماشية المصنوعة محليًّا، كجزءٍ من تجربةٍ عشوائية مقارِنة، قد تكون الأكبر على مستوى العالم لاختبار فعالية الكمامات في وقف انتشار مرض “كوفيد-19”.

وتُعَدّ الكمامات رمزًا واسع الانتشار لجائحة كورونا الحالية، التي أمرضت 35 مليون شخصًا، وأودت بحياة أكثر من مليون منهم. وفي المستشفيات ومَرافق الرعاية الصحية الأخرى، يحدّ استخدام الكمامات الطبية بوضوح من انتقال فيروس “سارس-كوف-2” SARS-CoV-2 المسبب للمرض. أمَّا فيما يخص أنواع الكمامات المختلفة الأخرى التي يستخدمها العامّة، فالبيانات حول فعاليتها مربكة، ومُتبايِنة، وتُجمَع غالبًا على عجل. أضف إلى ذلك أنَّها محاطةٌ بجدلٍ سياسي محتدم مثيرٍ للانقسام، استخفَّ فيه الرئيس الأمريكي باستخدامها  قبل أيَّامٍ فحسب من تشخيص حالته هو نفسه بالإصابة بالمرض. وعن ذلك الوضع يقول باروخ فيشهوف، عالِم النفس بجامعة كارنيجي ميلون في مدينة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، المتخصص في السياسة العامة: “إنَّ مَن ينظرون في الأدلَّة يتباين فهمهم لها. الوضع مُربِك حقًّا”.

ومنعًا لسوء الفهم، ينبغي أن نوضح أنَّ العِلْم يدعم استخدام الكمامات، وأنَّ الدراسات التي أُجريت مُؤخرًا تشير إلى أنَّ بإمكانها إنقاذ الأرواح بسُبُلٍ شتَّى، إذ توضح الأبحاث أنَّها تُقلِّل فرص انتقال عدوى فيروس كورونا، والإصابة بها أيضًا. كذلك تُلمِح بعض الدراسات إلى أنَّها قد تخفف من حدة العدوى، إذا أُصيب الناس بالمرض بالفعل.

ومع ذلك، تصعُب الإجابة بحسمٍ أكبر عن الأسئلة المتعلقة بمدى فعاليتها، أو متى ينبغي استخدامها. فهناك أنواعٌ عديدة منها تُرتَدَى في بيئاتٍ مختلفة. وثمة أيضًا تساؤلاتٌ حول مدى استعداد الناس لارتدائها، أو استعدادهم للقيام بذلك على النحو الصحيح. كما تتعذَّر الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بأنواع الدراسات التي قد تُوفِّر لنا دليلًا قاطعًا على فعاليتها.

ويُعلِّق فيشهوف على ذلك قائلًا: “إلى أيّ مدى ينبغي أن يكون الدليل قويًّا؟ هذا سؤالٌ جوهري”. 

فعالية الكمامات العادية غير الطبية

في بداية الجائحة، كان خبراء الطب لا يملكون أي أدلَّةٍ قوية توضح طرق انتشار فيروس “سارس-كوف-2″، ولم تكن لديهم المعرفة الكافية لتقديم توصياتٍ مقْنِعة بشأن الكمامات ضمن توجيهات الصحة العامة.

ومن بين أنواع الكمامات المختلفة، فإنَّ النوع القياسي المُعَد للاستخدام في مَرافق الرعاية الصحية هو قناع التنفُّس “إنْ95” N95، المُصمَّم لحماية مُرتديه عبر ترشيح 95% من الجسيمات التي يحملها الهواء، ويبلغ قطرها 0.3 ميكرومتر فأكثر. ومع تفشِّي الجائحة، سُرعان ما تضاءلت الكمية المتاحة من تلك الأقنعة. وأدّى هذا إلى إثارة السؤال الذي يثير حالةً من الجدل في الوقت الحالي، ألا وهو: هل يتعيَّن على العامّة أن يحرصوا على ارتداء الكمامات الجراحية البسيطة أو القماشية؟ وإذا كان ينبغي لهم ذلك، ففي أي ظروفٍ عليهم أن يرتدوها؟ في هذا الصدد تقول كايت جرابوسكي، خبيرة عِلْم وبائيات الأمراض المعدية بكلية طب جامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية: “هذه هي الأسئلة التي نجيب عليها عادةً في التجارب الإكلينيكية، لكنَّنا ببساطة لم نملك الوقت لإجرائها”.

من هنا، اعتمد العلماء على الدراسات القائمة على الملاحظة، وتلك التي تُجرَى في المختبرات للإجابة عن هذا السؤال. وتَرِدنا أدلةٌ غير مباشرة على مدى فعالية الكمامات من الدراسات حول الأمراض المعدية الأخرى. وتقول جرابوسكي عن ذلك: “إذا نظرتَ في أيّ دراسةٍ مُفرَدة، فلن تجد ضالتك بسهولة، لكنْ إذا أخذنا الدراسات كافة في الاعتبار، فأنا على يقينٍ من أنَّنا سنكتشف أن الكمامات مفيدة”. 

تزايدت الثقة في فعالية الكمامات في شهر يونيو الماضي، مع انتشار أنباءٍ عن اثنين من مُصففي الشعر في ولاية ميزوري الأمريكية، تأكَّدت في الفحوص إصابتهما بعدوى “كوفيد-19″(المرجع1)، إذ كانا يرتديان كماماتٍ قطنية مزدوجة الطبقات أو كماماتٍ جراحية أثناء العمل. ورغم أنَّهما نقلا العدوى إلى أفراد أسرتيهما، بدا أنَّ زبائنهما لم يُصابوا بالمرض (لكنْ ورد أنَّ أكثر من نصفهم قد رفض إجراء فحوص مجانية). وتجلَّت إشاراتٌ أخرى على فعالية الكمامات من خلال التجمُّعات الكبيرة. ففي أثناء الاحتجاجات التي نظَّمتها حركة “حياة السود مُهمَّة” Black Lives Matter في المدن الأمريكية، كان معظم الحاضرين يرتدون الكمامات، ولم يبدُ أنَّ تلك التجمُّعات قد تسبَّبت في أي زيادةٍ كبيرة في أعداد الإصابات2، بيد أنَّ العدوى اجتاحت في أواخر شهر يونيو الماضي معسكرًا صيفيًّا في ولاية جورجيا الأمريكية، لم يُلزَم الأطفال الحاضرون فيه بارتداء الكمامات3، بيد أن ثمة الكثير مما يجب أخذه في الاعتبار؛ فالاحتجاجات المذكورة آنفًا كانت في الهواء الطلق، حيث تقل احتمالية انتشار مرض “كوفيد-19″، بينما كان المشاركون في المعسكر يتشاركون الأكواخ ليلًا، على سبيل المثال. كما أنَّ كثيرين ممن لم يشاركوا في الاحتجاجات لزموا منازلهم خلال التجمُّعات، وربما أسهم ذلك في الحدّ من انتشار الفيروس في المجتمع. ومع ذلك، حسبما يقول ثيو فوس، الباحث المتخصص في السياسات الصحية لدى جامعة واشنطن في مدينة سياتل الأمريكية، فإنَّ الأدلة المَروِيَّة “ترسم لنا صورةً عن الوضع”.

لقد وفَّرتْ التحليلات الأكثر إحكامًا مزيدًا من الأدلة المباشرة على جدوى الكمامات، إذ أفادت مسودةٌ أولية4 لدراسة نُشرت في مطلع أغسطس الماضي (لم تخضع بعد لمراجعة الأقران) بأنَّ الزيادات الأسبوعية في معدَّل الوفيِّات بالنسبة إلى عدد السكان كانت أقل بأربع مرَّات في المناطق التي اعتاد ساكنوها ارتداء الكمامات، أو التي توصي الحكومات فيها بارتداء الكمامات، مقارنةً بالمناطق الأخرى. وقد نظر الباحثون في تلك الدراسة في بيانات مائتيّ دولة، من بينها منغوليا، التي فرضت ارتداء الكمامات في يناير الماضي، ولم تُسجِّل منذ شهر مايو الماضي أي وفياتٍ ذات صلة بعدوى “كوفيد-19”. وتناولت دراسةٌ أخرى5 الآثار المترتبة على تعليمات حكومات الولايات الأمريكية المُلزِمَة باستخدام الكمامات في شهري إبريل، ومايو. وتشير تقديرات الباحثين إلى أنَّ تلك التعليمات قد خفَّضت مُعدَّل تزايُد أعداد المصابين بعدوى “كوفيد-19” بنسبةٍ تصل إلى 2% يوميًّا. كما يشير الباحثون إلى أنه من المحتمل أنَّ تلك التعليمات قد حالت دون وقوع عددٍ ضخم من الإصابات، يبلغ 450 ألف حالة، بالأخذ في الاعتبار التدابير الأخرى لمكافحة انتشار المرض، مثل التباعد الجسدي.

“لا تحتاج إلى التفكير كثيرًا لتقول إنَّ ارتداء هذه الكمامات فكرةٌ جيدة بالطبع”.

وتعليقًا على هذه الأدلة، يقول جيريمي هوارد، الباحث العلمي من جامعة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي شارك في فريقٍ راجَع الأدلة على فعالية ارتداء الكمامات في مسودةٍ أولية، جرى تداولها على نطاقٍ واسع6: “لا تحتاج إلى التفكير كثيرًا لتقول إنَّ ارتداء هذه الكمامات فكرةٌ جيدة بالطبع”.

لكنَّ مِثْل هذه الدراسات يعتمد بالفعل على افتراضاتٍ بأنَّ تعليمات ارتداء الكمامات تُنفَّذ في الواقع، وأنَّ الناس يرتدونها كما ينبغي. كما أنَّ فَرْض استخدام الكمامات يتزامن غالبًا مع تغييراتٍ أخرى، مثل فرض القيود على التجمُّعات. وتشير جرابوسكي أنَّه مع إلغاء تلك القيود، قد تبدأ دراساتٌ رصدية أخرى في تمييز تأثير الكمامات عن تأثيرات التدخُّلات الأخرى. وقالت عن ذلك: “سيسهُل حينها رصد تأثيرات كل إجراءٍ على حِدة”.

وفي حين يتعذَّر على العلماء أن يأخذوا في اعتبارهم عديدًا من المتغيرات المُربِكة في المجموعات السكانية البشرية أثناء دراسة تلك التأثيرات، فإنَّ ذلك يصبح ممكنًا في الدراسات التي تُجرَى على الحيوانات. ففي تجربةٍ أجراها باحثون بقيادة كووك يونج يون، عالِم البيولوجيا الدقيقة بجامعة هونج كونج، وضع العلماء حيوانات هامستر مصابة بالعدوى، وأخرى غير مصابة في أقفاصٍ متجاورة، وفصلوا بين بعضها بعضًا بحواجز من الكمامات الجراحية. وحسب ورقة الدراسة التي نُشرت في مايو الماضي7، ففي غياب هذه الحواجز انتقل فيروس “سارس-كوف-2” إلى حوالي ثلثي الحيوانات التي لم تكن مصابةً بالمرض، مقارنةً بنسبةٍ بلغت فقط حوالي 25% بين الحيوانات المحمية بمادة الكمامات، وكانت الإصابات في الحيوانات المحمية أقل حدةً منها بين الحيوانات التي لم تفصل بينها الكمامات (استنادًا إلى النتائج الإكلينيكية، والتغيرات التي طرأت على أنسجة هذه الحيوانات).

وتوفر تلك النتائج مبرِّرًا للإجماع الذي بدأ يظهر مؤخرًا حول فعالية الكمامات في حماية مُرتديها وغيرهم من الناس أيضًا. وتشير هذه الدراسة كذلك إلى فكرةٍ أخرى قد تقلب الموازين، وهي أنَّ “ارتداء الكمامات ربما لا  يحميك من العدوى فقط، بل أيضًا من الإصابة بمرضٍ حاد”، حسبما تقول مونيكا غاندي، طبيبة الأمراض المعدية بجامعة كاليفورنيا في مدينة سان فرانسيسكو.

فقد شاركت غاندي في تأليف ورقةٍ بحثية8 نُشِرت في أواخر يوليو الماضي، أشارت إلى أنَّ ارتداء الكمامات يقلل كمية الفيروس التي قد يتعرَّض لها مَن يرتديها، وهو ما يخفف حِدة العدوى في حال إصابته، أو حتَّى يجعلها بدون أعراض. وتشير غاندي إلى أنَّ زيادة هذه الكمية تسفِر عن حدوث استجابةٍ التهابية أكثر حِدّة في أجسام المرضى. 

وتعكف هي وزملاؤها حاليًّا على تحليل مُعدّلات إيداع مرضي “كوفيد-19” في المستشفيات قبل فَرْض ارتداء الكمامات في ألف مقاطعةٍ أمريكية، وبعده أيضًا، لمعرفة ما إذا كانت حدّة المرض قد تراجعت بعد ورود توجيهات بارتداء الكمامات في الأماكن العامة، أم لا.

وحول ذلك، يقول بول ديجارد، عالِم الفيروسات بجامعة إدنبرة في المملكة المتحدة -الذي لم يشارك في البحث- إنَّ فكرة تزايُد حدة العدوى بسبب التعرض لكميةٍ أكبر من الفيروس “منطقية تمامًا، وهي حُجَّةٌ أخرى تدعم استخدام الكمامات”.

لِنَعُدْ إلى كيفية انتقال العدوى

يرتبط الجدل حول جدوى الكمامات ارتباطًا وثيقًا بسؤالٍ آخر مُثير للجدل، وهو كيف ينتقل الفيروس عبر الجو وينشر العدوى؟

عندما يتنفَّس الإنسان، أو يتكلم، أو يعطس، أو يسعُل، ينطلق منه رذاذٌ دقيق من الجسيمات السائلة، بعضها كبير الحجم، وربما يمكننا حتى رؤيته، ويُشار إليه باسم القُطَيْرات، وبعضها الآخر مجهري، ويُصنَّف كَهَبَاءٍ جوِّي. وتنتقل الفيروسات -مثل “سارس-كوف-2”- على متن تلك الجسيمات، التي يتحدد سلوكها حسب حجمها. فبإمكان القُطيرات الانطلاق سريعًا عبر الهواء، لتسقط على عين شخصٍ قريب، أو على أنفه، أو فمه، لتُصيبه بالعدوى، لكنَّ الجاذبية سرعان ما تسحب ذلك النوع من الجسيمات إلى أسفل. وعلى النقيض، فإنَّ جسيمات الهباء الجوِّي يمكنها أن تَعْلَق في الهواء لفتراتٍ تتراوح بين دقائق وساعات، وتنتشر في أنحاء الغرف عديمة التهوية على غرار دخَّان السجائر.

فما الذي يعنيه ذلك فيما يخص قدرة الكمامات على الحيلولة دون انتشار عدوى “كوفيد-19″؟ إنَّ قُطْر الفيروس نفسه لا يتجاوز 0.1 ميكرومتر، لكنْ نظرًا إلى أنَّ الفيروسات لا تُغادِر جسم الإنسان بمفردها، لا يلزم للكمامات أن تحجب الجسيمات الصغيرة إلى هذا الحدّ كي تتسم بالفعالية. والأهمّ هو أنْ تحجب نواقل الممْرضات، كالقُطيرات، أو جسيمات الهباء الجوّي، التي تتراوح أقطارها بين 0.2 ميكرومتر، ومئات الميكرومترات (لتقريب الصورة، يبلغ متوسِّط قُطر الشعرة الواحدة من شعر الإنسان حوالي 80 ميكرومترًا). وأغلب هذه القطيرات والجسيمات يتراوح قطره بين ميكرومتر واحد، و10 ميكرومترات، وبإمكانه البقاء في الهواء لفترةٍ طويلة، حسبما أوضح خوسيه لويس هيمينيز، خبير الكيمياء البيئية من جامعة كولورادو بولدر، الذي أضاف: “وهُنا تنتقل العدوى”.

ولم يحسم العلماء بعدُ أيَّ حجم من أحجام الجسيمات هو الأهمّ في انتقال عدوى “كوفيد-19″، وبعضهم لا يتفق حتى مع تعريف الحجم الذي يُفترض أنه يميز جسيمات الهباء الجوي عن غيرها. وللأسباب نفسها، ما زال العلماء يجهلون الوسيلة الرئيسة لانتقال فيروس الإنفلونزا، الذي تناولته الدراسات لفترةٍ أطول بكثير.

كما يعتقد كثيرون أنَّ انتقال العدوى من الحالات عديمة الأعراض هو السبب في قدر كبير من إصابات جائحة “كوفيد-19”. ولو صح هذا فقد يعني أنَّ الفيروسات لا تنتقل عادةً مع الجسيمات التي يفرزها السعال أو العطس. وفي تلك الحالة، ربما تكون جسيمات الهباء الجوِّي أهم سُبل انتقال العدوى. ومن ثم، من المهم أن نبحث ما أنواع الكمامات التي يمكنها حجْب تلك الجسيمات. 

السر يكمن في نسيج الكمامات

إنّ أقنعة التنفُّس “إن95” التي تتوفر بمقاسات مناسبة تخفق أيضًا بدرجة طفيفة خلال الاستخدام الفعلي في تحقيق نسبة ترشيح الجسيمات المذكورة في تصنيفها، البالغة 95%، إذ تحجب -في واقع الأمر- حوالي 90% فقط من جسيمات الهباء الجوِّي الواردة، باستثناء تلك التي يقل قطرها عن 0.3 ميكرومتر. وحسب دراسةٍ غير منشورة، فإنَّ أقنعة “إن 95” التي لا تحتوي على صِماماتٍ لترشيح الزفير، أي تلك التي تطرد هواء الزفير دون ترشيحه، تَحجِب نسبةً مشابهة من جسيمات الهباء الجوي الخارجة مع الزفير. كما أنّ المعلومات المتوفرة عن الكمامات الجراحية والقماشية في هذا الصدد أقل بكثير، حسبما أوضح كيفن فينيلي، اختصاصي أمراض الرئة لدى المعهد الوطني الأمريكي لأمراض القلب والرئة والدم، الواقع في مدينة بيثيسدا بولاية ميريلاند الأمريكية.

وخلال مُراجعةٍ9 لعدة دراسات رصدية، قدَّر فريقٌ بحثي دولي أنّ نسبة فعالية الكمامات الجراحية والكمامات القماشية المكافِئة لها في حماية مَن يرتدونها تَبلغ 67%.

 وفي دراسةٍ غير منشورة، وجدت الباحثة لينزي مار -المتخصصة في الهندسة البيئية من معهد فرجينيا للعلوم التكنولوجية والتطبيقية في مدينة بلاكسبِرج الأمريكية- وزملاؤها أنَّه حتى القمصان القطنية بإمكانها حجْب نصف جسيمات الهباء الجوِّي المستنشقة، وقرابة 80% من جسيمات الهباء الجوي الخارجة مع الزفير، التي يبلغ قطرها ميكرومترين. أما جسيمات الهباء الجوّي، التي يبلغ قطرها من 4 إلى 5 ميكرومترات، فتقول مار إنَه يمكن لأي نوعٍ من النسيج تقريبًا أن يحجب أكثر من 80% منها، سواء في الشهيق، أَم الزفير. 

وتضيف أنّ استخدام عدة طبقاتٍ من الأنسجة يوفر فعاليةً أكبر، وكلما كان النسيج مغزولًا على نحوٍ أكثر إحكامًا، كان أفضل في فعاليته. وتوصَّلت دراسةٌ أخرى10 إلى أنَّ الكمامات التي تحتوي على طبقاتٍ من خاماتٍ مختلفة، مثل القطن والحرير، يمكنها حجْب جسيمات الهباء الجوِّي بفعاليةٍ أكبر، مقارنةً بتلك المصنوعة من خامةٍ واحدة. 

وقد تعاونت كريستين بِن مع مهندسين دنماركيين في جامعتها، لاختبار تصميم كِماماتهم القماشية ثنائية الطبقات حسب المعايير نفسها التي تُقيَّم بها أقنعة التنفس المُصمَّمة للاستخدامات الطبّية. ووفقًا لما ذكرته بِن، تبيَّن لهم أنَّ كِماماتهم لم تحجب سوى نسبةٍ تراوحت بين 11، و19% من جسيمات الهباء الجوِّي التي يزيد قطرها على 0.3 ميكرومتر، بيد أنه بالنظر إلى أنَّ العدوى تنتقل -على الأرجح- من خلال الجسيمات التي لا يقل قطرها عن ميكرومتر واحد، حسبما أوضح كلٌّ من مار، وهيمينيز، فإنَّ هذا قد يجعل الفارق الحقيقي في الفعالية بين أقنعة “إن95″، وأنواع الكمامات الأخرى طفيفًا.

كما نُشِرَت دراسةٌ أخرى في شهر أغسطس الماضي11، شارك في تأليفها إريك ويستمان، الباحث الإكلينيكي بكلية طب جامعة ديوك الأمريكية، الواقعة في مدينة دورهام بولاية كارولينا الشمالية. وتستعرض هذه الدراسة طريقةً لاختبار فعالية الكمامات، وقد استخدم فيها فريق ويستمان أشعة الليزر، وكاميرات الهواتف الذكية، لمقارنة مدى فعالية 14 نوعًا مختلفًا من الكمامات القماشية والجراحية في حجْب القُطيرات أثناء تحَدُّث مرتديها. وقال ويستمان عن فعالية أداء الكمامات القماشية والجراحية: “لقد طمأنتني تلك التجربة إلى أنَّ كمامات كثيرة من تلك التي نستخدمها تؤدِّي الغرض منها بالفعل”، لكنْ بدا من التجربة أنَّ أوشحة الرقبة الرقيقة القابلة للتمدد، المصنوعة من البوليستر والألياف اللدنة (السبانديكس)، التي يمكن لمُرتديها سَحْبها إلى أعلى لتغطية فمه وأنفه، تُقلِّل -في الواقع- حجم القطيرات التي تَعْبُر أنسجتها. وحول ذلك يقول ويستمان: “قد يكون ذلك أسوأ من عدم ارتداء أيّ شيءٍ على الإطلاق”.

وينصح بعض العلماء بعدم المبالغة في أهمية تلك النتائج، المستنِدة إلى تجربةٍ تختبر فعالية الكمامات أثناء تحَدُّث شخصٍ واحد. بيد أن مار وأفراد فريقها البحثي كانوا من بين العلماء الذين تصدّوا للمسألة بإجراء تجاربهم الخاصة، ووجدوا أنَّ أوشحة الرقبة تحجب أغلب القطيرات كبيرة الحجم. وقد قالت مار عن ذلك إنَّها تُعِدُّ ورقةً عن نتائجها؛ بغرض نشرها.

وعن تلك النتائج المختلفة تقول أنجيلا راسموسِن، خبيرة علم الفيروسات بكلية ميلمان للصحة العامة في جامعة كولومبيا، الواقعة بمدينة نيويورك الأمريكية: “ثمة الكثير من المعلومات المتوفرة، لكنْ عند الجمْع بين الأدلة يغدو الأمر صعبًا ومُربِكًا. وحينما تعتمد المسألة على ذلك، نجد أن ثمة الكثير مما ما زلنا نجهله”.

السلوك البشري طرف في المعادلة

لا تأتي الإجابة عن الأسئلة حول فعالية الكمامات من علوم البيولوجيا والوبائيات والفيزياء فحسب. ففعاليتها على أرض الواقع تعتمد على عاملٍ جوهري آخر، هو السلوك البشري. وعن ذلك، يقول مايكل أوسترهولم، مدير مركز أبحاث الأمراض المعدية وسياساتها في جامعة مينيسوتا بمدينة مينيابولس الأمريكية: “لا أريد لشخصٍ مُصاب موجود في منطقةٍ مزدحمة أن يشعر بالاطمئنان إلى ارتدائه إحدى هذه الكمامات القماشية”.

ولعل من حسن الحظ أنَّ هناك أدلةً أخرى12 تشير إلى أنَّ ارتداء الكمامات قد يدفع مُرتديها ومَن حوله إلى الالتزام بدرجةٍ أكبر بالإجراءات الأخرى، مثل التباعد الاجتماعي، إذ ربما تُذكِّرهم تلك الكمامات بمسؤوليتهم المشتركة، لكنَّ هذا يتطلَّب أن يرتديها الناس أولًا.

وفي أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، ظلت نسبة استخدام الكمامات ثابتةً عند 50% تقريبًا منذ أواخر يوليو الماضي. وتُعَدُّ تلك النسبة أكبر بكثير من نسبة الاستخدام التي شهدها البلد خلال شهري مارس وإبريل، والتي بلغت 20% فقط، وفقًا لبيانات معهد تقييم الصحة ومؤشراتها بجامعة واشنطن في مدينة سياتل (انظر: go.nature.com/30n6kxv). وتوقَّعت نماذج المعهد أيضًا أنَّه في الفترة من الثالث والعشرين من سبتمبر 2020، حتَّى الأوّل من يناير من عام 2021، قد يمكن إنقاذ حياة حوالي 100 ألف شخص في الولايات المتحدة، من خلال زيادة نسبة استخدام الكمامات إلى 95%، وهي النسبة المرصودة في سنغافورة، ودولٍ أخرى. 

ويقول فوس، الذي أسهم في إجراء هذا التحليل: “نودّ معرفة معلومات أكثر من ذلك بكثير، لكنْ بالنظر إلى أنَّ هذه الكمامات تُعَد حلًّا بسيطًا ومنخفض التكلفة، ويُحتمل أن يكون لها مثل هذا الأثر الكبير، فمَن قد لا يرغب في استخدامها؟”.

إنّ موقف العامَّة من الكمامات يزداد ارتباكًا، بسبب بعض الدراسات المثيرة للجدل، وكذلك بسبب الرسائل المُلتبسة التي تصل إليهم، إذ وَجَدَت إحدى الدراسات في شهر إبريل الماضي13 أنَّ الكمامات ليست فعّالة، ثم سُحِبَت تلك الدراسة في شهر يوليو. ودعمت دراسةٌ أخرى نُشرت في شهر يونيو14 الماضي استخدام الكمامات، قبل أن يكتب عشرات العلماء خطابًا يهاجمون فيه الوسائل التي انتهجتها هذه الدراسة (انظر: go.nature.com/3jpvxpt)، ويقاوِم مؤلفوها حاليًّا الدعوات إلى سَحْبها. وفي الوقت نفسه، في بداية الجائحة، أحجمت منظمة الصحة العالمية (WHO)، والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) عن التوصية باستخدام الكمامات على نطاقٍ واسع. ويُعزى ذلك الموقف جزئيًّا إلى تردُّد هاتين الجهتين بعض الشيء بشأن ذلك، تحسبًا لاحتمالية تسبُّبه في نفاد هذه الإمدادات الضرورية لأطقم الرعاية الصحية. وفي إبريل، أوصت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بارتداء الكمامات حين لا يكون التباعد الجسدي خيارًا متاحًا، وحذت منظمة الصحة العالمية حذوها في يونيو. 

كما أن مواقف القادة السياسيين أيضًا متضاربة، فعلى سبيل المثال، أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن دعمه لارتداء الكمامات، لكنَّه نادرًا ما يرتديها، حتى إنَّه سخر من خصمه السياسي جو بايدن، لارتدائه الكمامات طوال الوقت، وذلك قبل أيّامٍ فحسب من تأكيد إصابة ترامب شخصيًا بفيروس كورونا من خلال الفحوص في الثاني من أكتوبر. هذا بينما اتجه زعماء بلدانٍ أخرى حول العالم إلى ارتداء الكمامات منذ بدايات الجائحة، منهم رئيسة سلوفاكيا زوزانا تشابوتوفا، ورئيس وزرائها إيجور ماتوفيتش، ويُقال إنَّهما فعلا ذلك ليقتدي بهما شعبهما. 

وكانت الدنمارك واحدةً من آخر الدول التي فرضت على مواطنيها ارتداء الكمامات، إذ ألزمتهم بارتدائها في المواصلات العامة اعتبارًا من الثاني والعشرين من أغسطس، إلا أنَّها حافظت -بوجه عام- على سيطرتها القوية على انتشار الفيروس، من خلال أوامرها المبكرة للناس بالبقاء في منازلهم، وكذلك عبر إجراء الفحوص، وتتبُّع مخالطي المصابين. كما أنَّها في طليعة الدول التي تُجرى فيها أبحاثٌ لدراسة فعالية الكمامات في التصدِّى لعدوى “كوفيد-19″، إذ شهدَتْ اثنتين من التجارب العشوائية الكبيرة المقارِنة. في إحداهما، استعانت مجموعةٌ بحثية بحوالي 6 آلاف مشارِك، وطلبت من نصفهم استخدام الكمامات الجراحية عند الذهاب إلى أماكن العمل. وعلى الرغم من اكتمال الدراسة، يقول توماس بينفيلد، الباحث الإكلينيكي في جامعة كوبنهاجن، وأحد الباحثين الرئيسين في تلك التجربة، إنَّ فريقه ليس مستعدًّا لمشاركة أيّة نتائج.

أمَّا فريق كريستين بِن، الذي يعمل مستقلًّا عن مجموعة بينفيلد، فيعكف حاليًّا على إلحاق حوالي 40 ألف مشاركٍ في دراسته بجمهورية غينيا بيساو، وذلك عبر اختيار نصف الأسر عشوائيًّا لتحصل على كماماتٍ قماشية ثنائية الطبقات، بحيث تُخصَّص كمامتان لكل فردٍ من الأسرة يبلغ عمره عشر سنواتٍ فأكثر. وبعد ذلك سيتابع الفريق جميع هؤلاء الأفراد على مدى عدَّة أشهر، لمقارنة معدلات استخدام الكمامات بمعدلات ظهور الأعراض الشبيهة بأعراض “كوفيد-19”. وأشارت بِن إلى أنَّ كل أسرةٍ ستتلقَّى نصائح بشأن كيفية حماية نفسها من المرض، باستثناء الأُسَر التي تشملها مجموعة المقارنة، فهذه لن تتلقَّى أي معلوماتٍ بشأن استخدام الكمامات. ويتوقَّع الفريق إتمام مرحلة إلحاق المشاركين في شهر نوفمبر الجاري. 

“لا يمكنك إجراء تجارب عشوائية لدراسة كل شيء، ولا ينبغي لك فِعْل ذلك”.

ويقول عدة علماء إنَّهم متحمسون لرؤية نتائج تلك التجربة، لكن يتخوف علماء الآخرون من كَوْن مثل تلك التجارب باهظة التكلفة، وأنَّها ربما تُعَدُّ استغلالًا للمجموعات السكانية المُعرَّضة للخطر. وعن ذلك يقول إريك توبول، مدير معهد سكريبس التطبيقي للبحوث، الواقع في مدينة لاهويا بولاية كاليفورنيا: “لو كان هذا عاملًا مُمْرضًا أقل خطورة، لكان الأمر رائعًا، إذ لا يمكنك إجراء تجارب عشوائية لدراسة كل شيء، ولا ينبغي لك فعل ذلك”، أو كما يحب الباحثون الإكلينيكيون أن يقولوا أحيانًا إنّ المظلات بدورها لم تخضع قط لتجربةٍ عشوائية مقارِنة.

ومع ذلك، تدافع بِن عن عملها، موضحةً أنَّ مجموعة المقارنة ستستفيد كذلك من المعلومات المتعلقة بمرض “كوفيد-19″، وستحصل على كماماتٍ في نهاية الدراسة. واستنادًا إلى صعوبة تصنيع الكمامات وتوزيعها، تقول إنَّ فريقها لم يكن بأيّ حالٍ من الأحوال “ليتمكن من توزيع كماماتٍ تكفي الجميع في بدء الدراسة”، بل إنّ فريقها -في الواقع- اضطر إلى تصغير نطاق خطته الأصلية، التي كانت تهدف إلى تعيين 70 ألف مشارك. وتأمل بِن أن تعود التجربة ببعض المنافع على جميع المشاركين فيها. وأضافت قائلة: “لكنْ لا ينبغي لأي فردٍ في المجتمع أن يصبح في وضعٍ أسوأ ممَّا كان سيواجهه لو لم نُجْرِ هذه التجربة”. وتابعت قائلةً إنّ البيانات الناتجة مِن المفترَض بها أن توفر معلوماتٍ يسترشد بها النِّقاش العلمي الدائر حول العالم. 

وفي الوقت الراهن، يرتدي أوسترهولم الكمامات في ولاية مينيسوتا. ومع ذلك فهو يأسف على ما شهدَتْه المسألة حتى الآن من “افتقارٍ إلى الدقة العلمية”. ويقول عن ذلك: ” ننتقد الناس طيلة الوقت في الأوساط العلمية لإدلائهم بتصريحاتٍ لا تستند إلى أي بيانات، بينما نفعل هذا كثيرًا في هذه المسألة”.  

ورغم ذلك، يثق معظم الباحثين في قدرتهم على توفير بعض التوجيهات فيما يتعلق بارتداء الكمامات، فتقول غاندي إنَّ ارتداءها ليس الحل الوحيد، لكنَّها تعتقد “أنَّه ركيزةٌ بالغة الأهمّية للسيطرة على الجائحة”، أو كما يقول ديجارد: “الكمامات فعَّالة، لكنَّها ليست مثالية. لذا.. حافِظْ على تَرْك مسافةٍ بينك وبين الآخرين!”.

المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2020/11/d41586-020-02801-8/%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%85%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA