العلاج المناعي للسرطان.. تغيير قواعد اللعبة

بدأت رحلة العلاج المناعي للسرطان في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1981، حينما اكتشف الجراح الأمريكي ويليام كولي عن طريق الصدفة أن حَقن الأورام السرطانية بسلالات معينة من البكتيريا يحفز الجهاز المناعي للقضاء على تلك الأورام.

جاء اكتشاف “كولي” في أثناء متابعته حالة مريض كان مصابًا بسرطان العنق -فئة من السرطانات تحدث في منطقة الرأس والعنق- ومصابًا أيضًا بعدوى بكتيرية في الوقت نفسه؛ إذ فوجئ باختفاء الأورام وتَعافي المريض. وكما يقول المثل: “رُب ضارة نافعة”.

على مدار الأربعين عامًا التالية لاكتشافه، حَقَن “كولي” -الذي كان آنذاك رئيس وحدة أورام العظام في مستشفى ميموريال في نيويورك- أكثر من 1000 مريض بالسرطان بالبكتيريا أو المنتجات البكتيرية. طوّر “كولي” ما يُعرف الآن بـ”سموم كولي”، وهي مجموعة من البكتيريا الميتة من سلالات مختلفة تُستخدم في علاج السرطان، ليصبح “كولي” بذلك أبًا لعلم العلاج المناعي للسرطان.

 في أعقاب اكتشافات “كولي”، استمرت جهود العلماء في هذا المجال، حتى جاءت اكتشافات العالِمين الأمريكي جيمس أليسون والياباني تسوكو هونجو -الحاصلَين على جائزة نوبل في الطب لعام 2018- أواخر القرن العشرين، واللذَين كانا يعملان بشكل مُستقل على استخدام بعض البروتينات الموجودة على الخلايا المناعية، والتي تُعرف بـ”نقاط التفتيش”، للتحكم في الجهاز المناعي وتحفيزه لمهاجمة الخلايا السرطانية. أدت تلك الاكتشافات إلى توجيه أنظار الباحثين إلى العلاج المناعي، الذي أصبح الآن أحد أكثر المجالات إثارةً في بحوث السرطان.

ومؤخرًا كشفت دراسة حديثة -نشرتها دورية سيل Cell في أواخر أكتوبر الماضي- عن تمكُّن باحثين من كلية طب ومستشفى ماونت سيناي في ولاية نيويورك الأمريكية من ابتكار نوع جديد من العلاج المناعي للسرطان يعتمد على تدريب الجهاز المناعي الفطري ومساعدته على القضاء على الخلايا السرطانية، وذلك من خلال استخدام مواد نانوية، مهندَسة بيولوجيًّا، ومصنَّعة من جزيئات طبيعية مُقترنة بمواد علاجية أخرى.

يستهدف هذا العلاج المناعي النانوي نخاع العظام، لتنشيط عملية تسمى “المناعة المُدربة”. تعيد هذه العملية برمجة الخلايا السلفية لنخاع العظام؛ لإنتاج خلايا مناعية “مُدربة” تستطيع إيقاف نمو الورم السرطاني.

تدريب الخلايا في المعمل

ظهر مُصطلح “المناعة المُدربة” لأول مرة فى عام 2011 على يد ثلاثة من العلماء الهولنديين -ميهاي نيتيا وزملائه جيسيكا كوينتين وجوس فان دير مير- الذين اكتشفوا أنه من الممكن تطوير الجهاز المناعي الفطري -وهو نظام مناعي أساسي في الجسم- وتعديله لكي يقوم بتكوين ذاكرة مناعية، بحيث يتعرف الجهاز المناعي بسرعة على مُسببات الأمراض التي تهاجم الجسم، وكانت  تلك الخاصية قاصرةً على الجهاز المناعي التكيُّفي المُتخصص، قبل اكتشاف ميهاي نيتيا وزملائه للمناعة المُدربة.

بدت فكرة المناعة المُدربة منطقيةً لـ”فيليم جيه مولدر” -أستاذ الأشعة التشخيصية والجزيئية والتداخلية في كلية الطب في ماونت سيناي، والباحث الرئيسي في الدراسة- حيث كان يعمل على علاج الالتهاب المفرط الذي يحدث عند عمليات زراعة الأعضاء لمدة ثلاث سنوات حين حضر أحد زملائه في عام 2016 مؤتمرًا وشاهد محاضرةً حول المناعة المُدربة، أدى ذلك إلى تعاون “مولدر” وزملائه مع “ميهاي نيتيا” -مُكتشف المناعة المُدربة- في استخدام هذه التقنية الحديثة لتثبيط الاستجابة المناعية التي تحدث بعد عمليات زراعة الأعضاء، ونشروا نتائج أبحاثهم في مجلة Immunity عام 2018.

 يقول “مولدر” في حديثه مع “للعلم”: “زرت الدكتور ميهاي نيتيا لأول مرة في يونيو 2016، ثم فكرنا في عمل العكس تمامًا مع السرطان، أي استخدام المناعة المدربة لتحفيز الجهاز المناعي لمكافحة الأورام الخبيثة”. فيما يبدو فإن تلك الزيارة غيرت قواعد اللعبة، إذ نتجت عنها الدراسة التي نناقشها اليوم، والتي يعتقد الباحثون أنها تمثل تقدمًا مهمًّا لكلٍّ من المناعة المدربة وعلاج السرطان، وتُبشر بإمكانية الانتقال بسرعة إلى استخدام التقنية على المرضى.

استخدم الباحثون من جبل سيناء مادة نانوية (مُتناهية الصغر) مُعدلة حيويًّا -تسمى MTP10-HDL- وتُحقن في الدم لتسخير جهاز المناعة عن طريق تنشيط الخلايا السلفية للجهاز المناعي في نخاع العظام، مما يجعل خلايا الدم البيضاء التي تتطور منها تهاجر إلى الأورام في الجسم بشكل أكثر قوة. يستأنف “مولدر” حديثه قائلًا: “دراستنا هي أول إثبات لفاعلية تحفيز المناعة المدربة كإستراتيجية مضادة للسرطان”.

أُجريت الأبحاث على نماذج حيوانية، من ضمنها نموذج فأر مُصاب بسرطان الجلد، أدى العلاج إلى وقف نمو الورم بشكل ناجح وآمن، أشاد محمد مصطفى علي -الباحث في قسم الكيمياء الحيوية الطبية وعلم الأحياء الدقيقة بجامعة أوبسالا السويدية- بنتائج الدراسة، قائلًا: “العلاج المُقترح آمن، وتأثيره جيد في النماذج التجريبية المختلفة، المتضمنة الرئيسيات غير البشرية -إحدى رتب الثدييات المستخدمة بكثرة في الأبحاث. إن تطبيق مثل هذا العلاج يتغلب على العقبات المرتبطة بالعلاجات المناعية التي تعتمد على مثبطات نقاط التفتيش المناعية؛ إذ لا يستجيب بعض المرضى لها”.

يمكن استخدام العلاج المقترَح من قِبَل “مولدر” وزملائه لعلاج السرطان بشكل مُستقل أو مع عقاقير مناعية أخرى مثل مثبطات نقاط التفتيش-العلاج المناعي المُستخدم مع الرئيس الأمريكي السابق كارتر، وهم يعملون الآن على التجارب السريرية.

حرب المناعة ضد السرطان

إن الجهاز المناعي هو الجيش الذي يحمي الجسم من الغُزاة، هذا الجيش له ذراعان: “الجهاز المناعي الفطري” وهو خط الدفاع الأول، ومهمته أن يهاجم بشكل سريع أيَّ جسم غريب يدخل الجسم، وهو غير مُتخصص، أي لا يُمييز بين تلك الأجسام الغريبة عن الجسم، على عكس “الجهاز المناعي التكيفي”، وهو خط الدفاع الثاني المُتخصص، الذي يمثل المناعة المكتسبة في الجسم، تُمثِّل تلك المناعة المكتسبة نوعًا من الحصانة طويلة الأمد عن طريق تكوين ذاكِرة مناعية، ويمكن الحصول عليها من خلال اللقاحات، أو الإصابة بالعدوى لأول مرة، أو العلاج بنقل الأجسام المضادة التي تكوَّنت في جسم آخر.

تُعد الخلايا التائية أحد أنواع الخلايا المناعية التي تهاجم الخلايا الغريبة، وتعتبر سلاحًا قويًّا ضد الخلايا السرطانية، ولكن يمكن للجهاز المناعي التكيفي أن يُخطئ فيهاجم الجسم نفسه، مُسببًا العديد من الأمراض التي تُسمى أمراض المناعة الذاتية.

وهنا تتجلى أهمية عملية كبح الجهاز المناعي، التي تتم من خلال عدة آليات لدى الخلية، من ضمنها ما يُعرف بـ”نقاطالتفتيش”، وهي بروتينات توجد على سطح خلايا الجسم، وعندما تتعرف عليها الخلايا التائية فإنها لا تهاجمها.

تُعرف الخلايا السرطانية بمكرها وخبثها؛ إذ تستغل تلك الخاصية لصالحها عن طريق إنتاج بروتينات نقاط التفتيش على سطحها، كي تخدع الخلايا التائية وتهرب من الجهاز المناعي.

اكتشف العالِمان الحاصلان على جائزة نوبل في الطب عام 2018 أنه يُمكن إيقاف تلك العملية من خلال استخدام أجسام مضادة لتثبيط نقاط التفتيش، وتمكين الخلايا التائية من مهاجمة الخلايا السرطانية.

مثبطات نقاط التفتيش موجودة بالفعل، وتُستخدم لعلاج المرضى، ولكنها مُكلِّفة وتسبب العديد من الآثار الجانبية الضارة، وكل العلاجات المناعية الموجودة حاليًّا تستهدف الجهاز المناعي التكيُّفي، ولكن الدراسة الحديثة -التي أجراها الباحثون من ماونت سيناي بالتعاون مع العديد من المستشفيات والمعاهد الطبية فى الولايات المتحدة وأوروبا- تُعتبر أول محاولة لاستهداف الجهاز المناعي الفطري وتدريب خلاياه على قتل الأورام.

كما تُسخر الأورام نوعًا من الخلايا المناعية يُعرف بـ”الخلايا البلعمية الكبيرة” لخدمتها، يزداد وجود تلك الخلايا في البيئة المحيطة بالورم، وتساعد الخلايا السرطانية على الهروب من المناعة والتطور والانتشار في الجسم.

وفق سالي صبرا، المُحاضر في قسم التكنولوجيا الحيوية بمعهد الدراسات العليا التابع لجامعة الإسكندرية، فإن هذه الدراسة تثبت أن التصميم الدقيق للحاملات النانوية يُمكن أن يعزِّز ويحفِّز المناعة المدرَّبة ويُحسِّن نشاطها ضد الأورام، وتقول “صبرا”: “يعتمد الدور الرئيسي للمواد النانوية في هذه الدراسة على إمكانية تصنيع جسيمات متناهية الصغر على شكل قُرص يبلغ قطرها حوالي 20 نانومترًا، وعلى سطحها مُركبات من الببتيدوجليكان MDP أوMTP تعتبر عوامل تدريب تُحفز المناعة الفطرية كما يحدث مع الميكروبات”.

لتخيُّل حجم أقراص MTP10-HDL النانوية المستخدمة، قد تفيد معرفة أن قطر شعرة الإنسان يبلغ 75 ألف نانومتر.

الأفضلية للمواد النانوية

يُمكن وصف المواد النانومترية MTP10-HDL التي طورها “مولدر” وفريقه بالميكروبات المخلقة؛ إذ إن الببتيدوجليكان المُستخدم فيها هو جزءٌ أساسيٌّ من الجدار الخلوي للبكتيريا، الذي تتعرف عليه خلايا الجهاز المناعي الفطري. توضح “صبرا”: “الببتيدوجليكان من الجزيئات البيولوجية التي يُمكن أن تحفز المناعة المُدربة من خلال تنشيط مستقبلات بروتينية تسمى (2NOD). تؤدي تلك المستقبلات دورًا في الاستجابة المناعية وتنشيط بروتين آخر يسمى NF-kB”.

يعمل بروتين NF-kB على تعديل شكل كروماتين الخلية وتركيبه، والكروماتين هو مزيج من الحمض النووي والبروتينات التي تشكل محتويات نواة الخلية، ويتحكم في أي الجينات يتم تفعيله والتعبير عنه وأيها يتم إيقافه.

يقول”علي”: “ساعدت عوامل التدريب المُستخدم في هذه الدراسة على إعادة برمجة الخلايا جينيًّا من خلال تعديل بنية الكروماتين والسماح بالتعبير الجيني للجينات المسؤولة عن تنشيط الخلايا النخاعية والمركبات المُسببة للاستجابة المناعية، مثل الإنترلوكين-6، وعامل نخر الورم (TNF)، كما زاد مُعدل تكاثر الخلايا المناعية المُدربة وتفوقت على الخلايا البلعمية الكبيرة التي تساعد الخلايا السرطانية، مما أدى إلى تقليل تطور الورم”.

كان أحد النماذج التي استخدمها الباحثون لفأر زرعوا فيه خلايا من ورم ميلانيني (سرطان الجلد). ومن المعروف أن الجهاز المناعي البشري يستجيب للتحفيز ضد السرطان بشكل مُختلف عن استجابة جهاز المناعة لدى الفئران، لذلك ينصح “علي” باستخدام نماذج فئران متوافقة مع البشر أو ما يُعرف باسم “Mouse avatars”.

رغم تقدم الأبحاث عن السرطان، إلا أنه لا يزال يقتل الملايين سنويًّا، والعلماء يطرقون أبوابًا لم تُطرق من قبل من أجل إيجاد علاجات جديدة. في العدد نفسه من دورية سيل، نُشرت دراسة أخرى عن استخدام المناعة المُدربة في علاج السرطان أجراها فريق بحثي من جامعة بنسلفانيا بالتعاون مع مكتشفي المناعة المُدربة أيضًا، ولكنهم استخدموا مُركبًا مُشتقًّا من الطحالب يسمى “بيتا جلوكان” من أجل تحفيز المناعة الفطرية بشكل مُباشر.

ويعتقد “علي” أن استخدام المواد النانومترية أفضل من استخدام البيتا جلوكان بشكل مباشر، وأوضحت “صبرا” أن استخدام المواد النانومترية يُقلل الآثار الجانبية للعلاج المناعي، وتقول: “هناك علاقة قوية بين استخدام المواد النانوية -وخاصةً تلك المصنَّعة من الجزيئات الموجودة في الجسم بشكل طبيعي- والسُّمِّيَّة المنخفضة، وجد الباحثون في تجارب التوزيع الحيوي أن المواد النانوية وصلت إلى الكبد، ومع ذلك لم تظهر على الكبد أي علامات سُمية أو تضرر، مما يُشير إلى التوافق الحيوي لهذه المواد النانومترية وملاءمتها الدخول في مرحلة التجارب السريرية.

تستمر المناعة المُدربة حتى بعد موت الخلايا المناعية، وأوضح جوس فان دير مير -أحد مكتشفي المناعة المُدربة، وهو أستاذ فخري ورئيس سابق لقسم الطب الباطني العام في مركز نيميغن الطبي بجامعة رادبود الهولندية- في تصريحاته لموقع “للعلم” أن سلائف الخلايا النخاعية المُدربة تحتفظ بالسمات التي تم تدريبها عليها، بسبب قدرتها على التجديد الذاتي؛ نظرًا لكونها من الخلايا الجذعية.

وفي الختام، يشدد “دير مير” على الحاجة إلى مزيد من الأبحاث: “لا يزال أمامنا الكثير من الوقت لتأكيد فاعلية هذا العلاج وأمان استخدامه على البشر المصابين بالسرطان”، ولكن يبدو أن “ميلدر” وزملاءه فى طريقهم لاكتشاف ذلك، إذ صرح “ميلدر” بأنهم أسسوا شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، وأنهم يطمحون لبدء إجراء تجارب على المرضى في غضون 2-4 سنوات من الآن.