الذكاء الاصطناعي يقطع خُطًى واسعة على طريق كشف البِنَى البروتينية

حققت شبكة ذكاءٍ اصطناعي قفزةً نوعيةً هائلة نحو التغلب على أحد أكبر التحديات التي تعترض مجال البيولوجيا، وهو تحديد الأشكال ثلاثية الأبعاد للبروتينات، اعتمادًا على تسلسلات أحماضها الأمينية.

فقد تفوَّق برنامج “ألفافولد” AlphaFold، الذي طوَّرته شركة الذكاء الاصطناعي “ديب مايند” DeepMind، التابعة لشركة “جوجل”، على حوالي مئة فريقٍ بحثي في مسابقةٍ تُقام كل سنتين، تتنافس فيها الفِرَق على توقُّع بِنَى البروتينات، وهي مسابقة “التقييم الدقيق لتوقُّعات البِنَى البروتينية” Critical Assessment of Structure Prediction، التي يُشار إليها بالاختصار: CASP. وقد أُعلنت نتائج المسابقة في يوم الثلاثين من نوفمبر، في مُستهَلِّ المؤتمر الذي تُستَعرض فيه مجرياته، والذي عُقِدَ عبر الإنترنت هذا العام.

وفيما يتعلق بنتائج البرنامج، قال جون مولت، الباحث المتخصص في البيولوجيا الحوسبية بجامعة ميريلاند في مدينة كوليدج بارك الأمريكية، والذي شارك في تأسيس المسابقة في عام 1994، بهدف تحسين الوسائل الحوسبية على النحو الذي يمهد الطريق أمام التوصل إلى توقعاتٍ دقيقة لِبِنَى البروتينات: “إننا بإزاء تطوُّر مهم؛ إذ يمكننا القول إن المشكلة قد حُلَّت”.

إذا توفرت للباحثين هذه القدرة على توقُّع بِنَى البروتينات بدقة، اعتمادًا على تسلسلات أحماضها الأمينية، فسوف يعود ذلك بالكثير من النفع على الطب وغيره من علوم الحياة؛ إذ من شأنها أن تحُثَّ الخُطى باتجاه فهْم الوحدات البنائية للخلايا، والمساعدة على اكتشاف العقاقير بطرقٍ أكثر تقدمًا.

وقد فاز برنامج “ألفافولد” بالمركز الأول في هذه المسابقة في نسختها الأخيرة، التي أُقيمَت في عام 2018، وهو أول عامٍ تشارك فيه شركة “ديب مايند”، التي تتخذ من مدينة لندن مقرًّا لها. أمَّا في مسابقة هذا العام، فقد تفوَّقت شبكة التعلم العميق التي طوَّرَتها الشركة بفارقٍ كبير على سائر الفرق الأخرى. وحسب أقوال العلماء، فإنَّ أداءها كان مذهلًا، إلى حد يُنبئ بأنَّها قد تُحدِث ثورةً في مجال البيولوجيا.

ويقول أندريه لوباس، الباحث المتخصص في مجال البيولوجيا التطورية بمعهد ماكس بلانك للبيولوجيا النمائية في مدينة توبينن الألمانية، الذي قيَّم أداء الفرق المختلفة المشارِكة في المسابقة، إنَّ هذا البرنامج “يقلب الموازين”؛ إذ ساعده على التوصل إلى بِنْية بروتينٍ حَيَّر الباحثين العاملين في معمله على مدى عشر سنوات. ويضيف قائلًا: “سوف يشمل التغيُّر الذي سيُحدثه هذا البرنامج مجالات الطب، والبحث العلمي، والهندسة البيولوجية. سوف يُغيِّر كل شيء”.

وفي بعض الحالات، لم يكن من الممكن تمييز البِنَى التي توقَّعها البرنامج عن تلك التي كشفها الباحثون بأفضل الوسائل التجريبية المتاحة، مثل تقنية التصوير البلوري بالأشعة السينية، وتقنية التصوير المجهري الإلكتروني فائق البرودة (cryo-EM) في السنوات الأخيرة. ويرى العلماء أنَّ البرنامج ربما يُجنِّبنا الحاجة إلى مثل هذه الوسائل المُجهِدة والمكلفة، لكنَّه سيتيح لنا دراسة الكائنات الحية بطرقٍ جديدة.

إشكالية بِنية البروتين

البروتينات هي الوحدات البنائية للحياة، وهي المسؤولة عن معظم العمليات التي تتم داخل الخلايا. وتتحدد وظائفها وكيفية عملها بأشكالها المجسَّمة. وعادةً ما تتخذ أشكالها هذه على نحوٍ تلقائي، خاضعةً في ذلك لقوانين الفيزياء وحدها.

على مدى عقود، كانت التجارب المخبرية هي السبيل الرئيس لتحديد بِنَى البروتينات بدقة. وقد بدأ تحديد أولى البِنَى الكاملة للبروتينات في خمسينات القرن الماضي، باستخدام تقنيةٍ تُوجَّه فيها حِزَمٌ من الأشعة السينية إلى بروتيناتٍ متبلورة، ثم تُستَنتَج الإحداثيات الذرية الخاصة ببِنَى هذه البروتينات من خلال أشعة الضوء الحائدة. وقد اكتُشِفَت غالبية البِنَى المعروفة حاليًّا باستخدام تقنية التصوير البلوري بالأشعة السينية، إلا أنَّ تقنية التصوير المجهري الإلكتروني فائق البرودة قد أصبحت خلال السنوات العشر الأخيرة هي الأداة المفضلة لدى كثيرٍ من مختبرات البيولوجيا البنيوية.

ولطالما تساءل العلماء عن الكيفية التي تُصمِّم بها الأحماض الأمينية المُكوِّنة للبروتينات الانحناءات والثنايا التي تظهر في أشكالها النهائية، غير أنَّ المحاولات المبكرة لاستخدام الحواسيب في توقُّع بِنَى البروتينات خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين اتَّسمت بضعف الأداء. وعندما كانت الأوراق البحثية تخرج بنتائج طموحة، تزعم ابتكار وسائل منهجية خليقة بتحقيق ذلك الهدف، عادةً ما كانت تلك المزاعم تتهاوى حين يطبق علماء آخرون تلك الوسائل على بروتيناتٍ أخرى.

لذا، دشَّن مولت المسابقة، بُغية العمل على تعزيز دقة هذه الجهود. وفيها تخوض الفِرَق تحديًا لتوقُّع بِنَى البروتينات التي حُدِّدت بالطرق التجريبية، لكنَّها لم تُنشَر.

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore magna aliqua.
كبر الصورة
Source: DeepMind

وفي عام 2018، حين عُقدت الدورة الثالثة عشرة من المسابقة، أذهل أداء تلك الأداة التي طورتها شركة “ديب مايند” كثيرًا من علماء ذلك المجال، الذي طالما انحصرت الإسهامات فيه داخل دوائر أكاديمية ضيِّقة. ومع ذلك.. فقد كان نهج الأداة شبيهًا بوجهٍ عام بمقاربات الفِرَق الأخرى التي استعانت بتقنيات الذكاء الاصطناعي، حسبما قال جِنبو شو، المتخصص في البيولوجيا الحوسبية بجامعة شيكاغو في ولاية إلينوي الأمريكية.

وقد اعتَمدت النسخة الأولى من برنامج “ألفافولد” تقنية الذكاء الاصطناعي، المعروفة بتقنية التعلُّم العميق، في تحليلها البيانات البنيوية والجينية؛ وذلك لتوقُّع المسافات بين أزواج الأحماض الأمينية في البروتينات، ثم في خطوةٍ تالية لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تعتمد تلك النسخة على هذه المعلومات في التوصل إلى نموذجٍ متسق معها جميعًا، يحدد الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه البروتين، وذلك حسبما أفاد جون جَمبر، الذي يقود المشروع في شركة “ديب مايند”.

وقد سعى أعضاء الفريق إلى تطوير ذلك النهج، لكنَّهم انتهوا إلى طريق مسدود. ولهذا، سلكوا نهجًا مغايرًا، وفقًا لما ذكره جَمبر، وطوَّروا شبكة ذكاء اصطناعي تدمج في تحليلاتها معلومات إضافية عن القيود الفيزيائية والهندسية، التي تحدد كيفية طيّ بِنْية البروتين. كما أسند الفريق إلى تلك الشبكة مهمةً أصعب، هي: أن تتوقع البِنْية النهائية لتسلسلٍ بروتيني مُستهَدف، بدلًا من توقُّع العلاقات بين الأحماض الأمينية. ويقول جَمبر: “إنَّه نظام أكثر تعقيدًا بكثير”.

دقةٌ مذهلة

تقام فعاليات المسابقة على مدار عدة أشهر. ويُكشَف فيها بانتظام عن البروتينات المستهدَفة، أو عن أجزاءٍ منها تُعرَف بالنطاقات (يبلغ عدد البروتينات والنطاقات حوالي مئة)، ثم تُتاح مهلة للفِرَق المشارِكة تمتد إلى عدة أسابيع، لتُقدِّم توقعاتها لبِنَى هذه البروتينات. وبعد ذلك.. يُقيِّم فريق من العلماء المستقلين هذه التوقعات، اعتمادًا على معايير تقيس مدى التطابق بين البِنَى المتوقعة للبروتينات، وبناها التي كشفت عنها التجارب. ولا يُطلَع القائمون على عملية التقييم هذه على هويات أصحاب التوقعات.

وقد عُرِضَت توقعات برنامج “ألفافولد” على المُحكِّمين تحت اسم “المجموعة 427″، لكنَّ الدقة المذهلة لكثيرٍ منها جعلتها ممتازةً عن مشاركات المتسابقين الآخرين، حسبما قال لوباس، الذي أضاف: “خَمَّنتُ أنَّ هذه التوقعات تخص «ألفافولد»، وكذلك كان حال معظم المحكِّمين”.

كان بعض توقعات البرنامج أفضل من بعض آخر، لكنَّ ثلثي التوقعات تقريبًا كانت مكافئةً في دِقّتها للبِنَى التي كشفت عنها التجارب. ويقول مولت إنَّه في بعض الحالات لم يكن واضحًا ما إذا كان التبايُن بين توقعات البرنامج والنتائج التجريبية يعود إلى أخطاء في التوقع، أم إلى خطأٍ في التجربة نفسها. كما واجه البرنامج صعوباتٍ في نمذجة البِنَى المفردة ضمن المركبات البروتينية المعقدة.

سرعةٌ أكبر

ساعد أحد التوقعات التي توصل إليها البرنامج على تحديد بِنْية بروتينٍ بكتيري، عكف مختبر لوباس لسنوات على محاولة كشفه. كان الفريق قد جمع في السابق بياناتٍ غير مُعالَجة عن حيود الأشعة السينية التي سُلِّطَت على ذلك البروتين، لكنَّ تحويل أنماط هذه البيانات إلى بِنْيةٍ بروتينية يتطلب معرفة بعض المعلومات عن شكل البروتين. وقد فشلت حيل الحصول على هذه المعلومات، كما أخفقت أدوات التوقع الأخرى، غير أنَّ لوباس يستدرك قائلًا: “كشف لنا نموذج «المجموعة 427» تلك البِنْية التي طالما سعينا إلى تحديدها في غضون نصف ساعة”.

ويقول ديمس هاسابِس، المدير التنفيذي لشركة “ديب مايند”، وأحد مؤسسيها، إنَّ الشركة تخطط لجعل البرنامج مفيدًا للعلماء الآخرين (وكانت الشركة قد نشرت في وقت سابق تفاصيل كافية عن النسخة الأولى من البرنامج للباحثين الآخرين، كي يتمكنوا من تطوير نهجٍ مماثل). يمكن أن يستغرق البرنامج أيامًا ليتوصل إلى البِنَى المتوقعة للبروتينات، ومعها تقديرات حول مدى دقة مناطقها المختلفة. وأضاف هاسابِس: “لقد بدأنا نفهم للتو ما يريده علماء البيولوجيا”.

كانت الشركة قد نشرَتْ، في أوائل عام 2020، توقعاتٍ لبِنَى عددٍ قليل من بروتينات فيروس “سارس-كوف-2” SARS-CoV-2، التي لم تُحدَّد بالتجارب المخبرية. وتَبيَّن وجود تطابقٍ بين توقعات البرنامج لبِنْية بروتينٍ يُسمَّى Orf3a، وبِنْيته التي حُدِّدَت لاحقًا باستخدام تقنية التصوير المجهري الإلكتروني فائق البرودة، حسبما قال ستيفن بروهاون، المتخصص في البيولوجيا العصبية الجزيئية بجامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، الذي نشر فريقه بِنْية ذلك البروتين في شهر يونيو الماضي. وأضاف بروهاون: “ما استطاعوا تحقيقه مثير للإعجاب حقًّا”.

“هذا سيُمكِّن الجيل الجديد من باحثي البيولوجيا الجزيئية من طرح أسئلةٍ أكثر تعقيدًا”.

مِن المُستبعَد أن يكفينا هذا البرنامج الحاجة إلى المختبرات التي تَستخدِم الطرق التجريبية لكشف بِنَى البروتينات، مثل مختبر بروهاون، لكنَّه ربما يجعل البيانات التجريبية، وإنْ كانت جودتها منخفضة، كافيةً للتوصل إلى البِنَى بدقة. كما أنَّه قد يُستخدم بفعالية في بعض التطبيقات الأخرى، مثل تحليل البروتينات من الناحية التطورية. يقول لوباس: “هذا سيُمكِّن الجيل الجديد من باحثي البيولوجيا الجزيئية من طرح أسئلةٍ أكثر تعقيدًا. وسيتطلب هذا منهم مزيدًا من التفكير، وقدرًا أقل من العمل المخبري”.

المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2020/12/d41586-020-03348-4/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%8A%D9%82%D8%B7%D8%B9-%D8%AE%D9%8F%D8%B7%D9%8B%D9%89-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%90%D9%86%D9%8E%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9