منظمة الصحة العالمية تتجه إلى إجازة لقاح جديد ضد شلل الأطفال للاستخدام في حالات الطوارئ

تشير توقُّعات إلى احتمال إجازة لقاحٍ لشلل الأطفال، يستهدف نوعًا من المرض الفيروسي، ينتشر في نصف الكرة الجنوبي، من أجل استخدامه في حالات الطوارئ، قبل نهاية العام الجاري. وإذا تمَّ ذلك، فستكون هذه هي المرة الأولى التي تُقدِم فيها منظمة الصحة العالمية على قبول لقاحٍ أو دواء غير مرخص، واعتماده باتباع إجراءات التصريح باستخدام الأدوية في حالات الطوارئ.

كانت البشرية قد تمكَّنت من القضاء على مرض شلل الأطفال البري بالكامل تقريبًا، عدا دولتين لا تزالان تسجلان حالات على أراضيهما، هما: أفغانستان، وباكستان، لكنَّ نسخةً من الفيروس نشأت بشكل طبيعي من فيروس شلل الأطفال المُضعَّف (الموهَن) المستخدَم في اللقاحات، تشهد انتشارًا واسعًا في كلا البلدين، إضافةً إلى الفلبين، وماليزيا، واليمن، و19 دولة أفريقية أخرى، من بينها ثلاث دول، هي: تشاد، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكوت ديفوار، وتُعتبر الأكثر تضررًا في أفريقيا.

يُذكر أنه منذ مطلع عام 2020، بلغ عدد حالات الإصابة المسجَّلة بفيروس شلل الأطفال الساري على مستوى العالم، الناجم عن اللقاح (والمعروف اختصارًا بفيروس cVDPV)، أكثر من 460 حالة، متجاوزًا أربعة أضعاف الحالات المكتشَفة خلال الفترة نفسها من عام 2019؛ ما يمثل مشكلة كبيرة تواجه الحملة العالمية للقضاء على المرض، التي استمرت 32 عامًا، وتكلفت 17 مليار دولار أمريكي. ويقول الباحثون المعنيون بوضع نماذج لشلل الأطفال إنّ كل حالة معروفة تقابلها حوالي ألفي إصابة أخرى غير مكتشَفة بين السكان.

وتقول كاثلين أورايلي، عالمة الأوبئة في كلية لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة، المتخصصة في وضع النماذج لانتقال عدوى شلل الأطفال: “ليس من المستبعَد أن يكون هناك الملايين ممن ليس لديهم مناعة ضد الفيروس الناجم عن اللقاح. وهذا ما يبعث على القلق”.

وقد عمَدَ عدد من العلماء، الذين يعملون مستشارين مستقلين لمنظمة الصحة العالمية، إلى إجراء تقييم لأحد اللقاحات المطوَّرة خصيصًا للحماية من الإصابة بفيروس شلل الأطفال الساري، الناجم عن اللقاح. وقد خضع هذا اللقاح، الذي استغرق تصنيعه عقدًا من الزمن، للاختبارات التي تهدف إلى التأكد من سلامته وفعاليته، لكنه لم يحصل على ترخيص الاستخدام بعد، ولا يزال من الضروري أن يخضع للمزيد من التجارب. أما منظمة الصحة العالمية، فإنها بصدد اتخاذ قرار لحسم ما إذا كانت عملية التصريح باستخدام اللقاح ستجري على نحو أسرع، أم لا، بموجب ما يُعرف بإجراء التصريح باستخدام العقار في حالات الطوارئ، وهو الإجراء الذي وُضع لأول مرة أثناء حالة تفشي فيروس الإيبولا بين عامي 2014، و2016 في غرب أفريقيا، وهو الإجراء نفسه الذي تزمع المنظمة الاستعانة به في حالة لقاحات فيروس كورونا.

وفي تصريحٍ لأليخاندرو كرافيوتو، رئيس مجموعة الخبراء الاستشارية الاستراتيجية بمنظمة الصحة العالمية لشؤون اللقاحات، أدلى به لدورية Nature، قال إن هذا أول لقاح يُنظَر في إدراجه ضمن قائمة العقاقير المصرَّح باستخدامها في حالات الطوارئ، مؤكِّدًا أن “مراقبة تنفيذ هذا الإجراء ستكون بمثابة تجربة ممتازة بالنسبة لنا، بالنظر إلى أننا قد نلجأ إلى تطبيق الإجراء نفسه في اعتماد بعض لقاحات “كوفيد-19″ COVID-19”.

تحدُث أغلب حالات الإصابة بفيروس شلل الأطفال الساري، الناجم عن اللقاح، نتيجة طفراتٍ في سلالة فيروس شلل الأطفال، تسمَّى “النوع الثاني”. ويجري حاليًّا التعامل مع تفشي الفيروس باستخدام اللقاح القديم لمعالجة النوع الثاني من شلل الأطفال، وهو ما يهدد بزرع بذور موجات تفشٍ جديدة. وإذا أُدرج اللقاح الجديد في قائمة العقاقير المُجازة للاستخدام الطارئ، فقد يترتب على ذلك إحداث تغيير جذري في طريقة التصدِّي للأوبئة، حسب قول سيمونا زيبيرسكي، التي تشترك في رئاسة مجموعة العمل المعنية بتطوير اللقاح في المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال، الوقعة في جنيف بسويسرا، وهي المبادرة التي تقوم على مشارَكة بين منظمة الصحة العالمية، وعددٍ من المتبرعين الدوليين.

وقد نُشرت نتائج المرحلة الأولى من تجارب اللقاح في العام الماضي (P. Van Damme et al. Lancet 394, 148–158; 2019). كما انتهى الباحثون من إجراء تجربتين ضمن المرحلة الثانية من تجارب اللقاح، لكن النتائج لم تُنشر بعد. وعلى الرغم من ذلك، فقد قامت الشركة المُصنِّعة للقاح، “بيو فارما” Bio Farma، ومقرها مدينة باندونج بإندونيسيا، بإنتاج 160 مليون جرعة، أملًا في أن تدرِج منظمة الصحة العالمية اللقاح في قائمة العقاقير المصرَّح باستخدامها في حالات الطوارئ، في الوقت الذي لا تزال فيه تجارب أخرى قيد التنفيذ.

تقول زيبورسكي إنه في حال موافقة الجهات الرقابية الطبية الوطنية، سيكون في الإمكان توزيع لقاح شلل الأطفال الجديد في بلاد مختارة على سبيل التجربة، وذلك في غضون شهرين من صدور موافَقة منظمة الصحة العالمية.

قصة عودة الفيروس

طوَّر الباحث الطبي ألبرت سابين لقاح شلل الأطفال التقليدي في خمسينات وستينات القرن الماضي، وذلك من خلال إنماء الفيروس في الرئيسيات غير البشرية ومزارع الخلايا، حتى تكيف الفيروس مع تلك البيئات، ولم يعد فعالًا في إصابة البشر. وبفضل استخدام هذا الفيروس “المضعَّف” كلقاح، أصبح عدد المصابين بالعدوى لا يتعدى بضع مئات من البشر كل عام، ما أدَّى إلى انخفاض أعداد المصابين بشلل الأطفال انخفاضًا كبيرًا عمَّا كانت عليه في فترة سابقة، حين كان المرض يصيب مئات الآلاف من البشر.

يُؤخذ هذا اللقاح عن طريق الفم، ويظهر الفيروس الحي في براز الأشخاص الملقَّحين لفترة من الزمن بعد تلقِّيهم اللقاح. وإذا ما ابتلع أشخاص آخرون هذا الفيروس، عن طريق مياه الشرب الملوثة، على سبيل المثال، فقد تصيبهم العدوى، التي عادة ما تكون غير ضارة، لأن الفيروس مُضعّف، بل لا يبعُد أن يكون هذا سببًا في تعزيز المناعة ضد شلل الأطفال، كما يحدث مع أولئك الذين يتلقون اللقاح مباشرة.

أما ما لم يَدُر في عقل سابين، على حد قول راؤول أندينو، عالم الفيروسات في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو، فهو أن الاعتماد على “الفيروس المُضعّف” عملية تنطوي على كثير من المخاطر. فما هي إلا طفرة واحدة، من النوع الذي يُطلق عليه “طفرة حارس البوابة” gatekeeper mutation، في الحمض النووي الريبي للفيروس، حتى يصبح الطريق مفتوحًا أمام تغييرات أخرى تسمح للفيروس باستعادة شدته وقدرته على الإمراض.

وهذا ما وقع بالفعل، ربما منذ عام 1988، حينما بدأ مرض شلل الأطفال في التفشِّي في مصر. وظهرت حالات جديدة خلال السنوات التالية، على الرغم من أن شلل الأطفال البري كان في طريقه إلى الاختفاء من معظم البلدان.

والجدير بالذكر أن اللقاح الجديد مشتق من الفيروس الحي المُعْدي، شأنه شأن القديم، لكن العلماء أخضعوا اللقاح هذه المرة لعملية “إغلاق ثلاثية”، مستعينين بالهندسة الوراثية، بغرض منعه من التحول إلى نسخة ضارة. بدأ أندينو العمل على تطوير لقاح للفيروس الجديد في عام 2011، بمعاونة عددٍ من الزملاء، من بينهم أندرو ماكادام، الباحث في المعهد الوطني للمعايير البيولوجية والتحكم في المملكة المتحدة، إضافةً إلى زملاء آخرين يعملون في المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.

ركّز مكادام على أجزاء من الحمض النووي الريبي في لقاح سابين، التي تعرَّضت لطفرات في بعض القواعد النيتروجينية المنفردة، التي أدَّت بدورها إلى تعزيز شدة الفيروس عند إصابة البشر. استبدل مكادام بعضًا من هذه القواعد النيتروجينية بأخرى، عند نقاط استراتيجية، اختارها بحيث تجعل من الصعب على الفيروس أن يعيد الوضع إلى ما هو عليه (M. T. Yeh et al. Cell Host Microbe27, 736–751; 2020). ويقول أندينو: “نجحت هذه الطريقة نجاحًا مدهشًا؛ فلم نرصد أي طفرات، لا في مزارع الخلية، ولا في النماذج الحيوانية، ولا في البشر حاليًّا”.

قام فريق العمل بإجراء تعديلين إضافيين على الفيروس؛ يهدف أحدهما إلى منعه من الاتحاد من جديد مع فيروسات الأمعاء الأخرى، بينما يهدف الثاني إلى إبطاء وتيرة تطوره. وهكذا، نجح في الخروج بلقاح ضد الفيروس، تقل كثيرًا احتمالية تَسبُّبه في الإصابة بمرض شلل الأطفال.

وفي عام 2015، وافقت مؤسسة “بيل وميليندا جيتس” Bill and Melinda Gates، الواقع مقرها في مدينة سياتل بولاية واشنطن، على تمويل برنامج، قيمته 150 مليون دولار أمريكي، لإجراء تجارب إكلينيكية متزامنة، وكذلك تصنيع اللقاح الجديد. وتضطلع بمهمة تنسيق المشروع مؤسسة “باث” PATH الصحية العالمية غير الربحية، ومقرها سياتل أيضًا.

فيروس شلل الأطفال مُضعّف، إلا أن الطفرات من الممكن أن تجعله ضارًا.
فيروس شلل الأطفال مُضعّف، إلا أن الطفرات من الممكن أن تجعله ضارًا.

Credit: Juan Gaertner/SPL

التأهُّب لنتائج غير متوقعة

يرى بول فاين، أخصائي الأمراض السارية في مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة، أنه “لا يزال هناك خطر محدود، يتمثل في أن تكون لهذا اللقاح نتائج عكسية، يكون من شأنها التسبُّب في الإصابة بالمرض”.

كما أن عبد الله زرابة، عالِم الأوبئة في مركز السكان الأفريقيين والبحوث الصحية في مدينة نيروبي، لديه بعض التحفظات بشأن عملية إدراج اللقاح في قوائم العقاقير المصرَّح باستخدامها في حالات الطوارئ؛ إذ يقول إن إجراءً كهذا كان ليتصف “بالمنطقية في حالة الافتقار إلى أيّ بدائل أخرى في ترسانة العقاقير، مثلما هو الحال مع فيروس الإيبولا، أو الفيروس المسبب لمرض “كوفيد”، لكن الفارق كبير بين مرضَي شلل الأطفال، و”كوفيد” فيما يتعلق بمفهوم الطوارئ”.

ومن جهة أخرى، تقول زيبورسكي إن إدراج اللقاح ضمن قائمة العقاقير المُجاز استخدامها في حالات الطوارئ يستتبع مراقبة مكثفة على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من تاريخ اعتماد اللقاح، حتى تتسنَّى للدول “الاستجابة لأي نتائج غير متوقعة”. وترى أن هذا الأمر يحظى بأهمية محورية؛ “لأن الأثر السلبي لن يقتصر على تقويض برنامج شلل الأطفال، بل سيمتد ليشمل برامج التحصين كلها”.

ويقول نيكولاس جراسلي، عالم الأوبئة في كلية لندن الإمبراطورية، إن التنفيذ ينبغي أن يبدأ في أسرع وقت، مؤكدًا أن العالَم يستجيب لتفشي فيروس شلل الأطفال الساري، الناجم عن اللقاح، باستخدام مئات الملايين من جرعات لقاح شلل الأطفال القديم من النوع الثاني، الذي يبدأ بدوره في غرس بذور مزيدٍ من الفاشيَّات المستقبلية، مضيفًا أن اللقاح الجديد “هو الأداة الوحيدة التي نملكها لوضع حدّ لهذه الدائرة المفرغة”.

أما فيصل شعيب، المدير التنفيذي للهيئة الوطنية لتطوير الرعاية الصحية الأولية في أبوجا، وهي الهيئة المنوط بها القضاء على شلل الأطفال في نيجيريا، فيرحِّب باللقاح الجديد، “شريطة أن يفي بمتطلبات السلامة التي حددتها الهيئات الرقابية العالمية والوطنية”.

ويضيف قائلًا: هذا اللقاح “ليس عصًا سحرية. لا شكَّ أنه على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أن الحل في النهاية يكمُن في التأكد من توفير جميع الموارد اللازمة لتحسين عمليات التحصين الاعتيادية”.

المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2020/12/d41586-020-03045-2/%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%AC%D9%87-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A5%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A9-%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AD-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%B6%D8%AF-%D8%B4%D9%84%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A6