الإنسان هو الجنس الوحيد الذي ينظم الكلمات في جمل

المخ هو الحاسوب المركزي للإنسان، وهو يتكون من ملايين الخلايا العصبيةالصغيرة التي تقوم بوظائفه. فكل خلية تتكون من جسم، ومنه تتفرعتفرعات عدة تسمى الزوائد الشجرية، ومنه أيضاً يتفرع الذيل ويسمىالأكسون الذي ينتهي هو أيضاً إلى أفرعوحين يتعرض فرع من أفرع الزائدةالشجرية لتنبيه مامثلا عن طريق منبه يأتي من أفرع أكسون خلية عصبيةأخرىينتج عن ذلك تيار كهربائي ضعيف جداً في فرع الزائدة الشجرية.

 

وكلما تفاعلت أفرع أكسون الخلايا الأخرى مع خليتنا هذه ينتج عن ذلك تيارات كهربائية ضعيفة تتجمعوتسيرفي الأكسون لتكون تيارًا كهربائيًا قويًا. وعندما يصل هذا التيار إلى فرع من الأكسون، وإذا كانبالقوة الكافية سيستطيع أن ينتج تيارًا كهربائيا ضعيفا في زائدة الخلية العصبية المجاورة التي يتصلبها، وهكذا ينتقل التيار الكهربائي من خلية عصبية إلى أخرى، ويصل التنبيه، الذي يحمله هذا التيارالكهربائي من منبعه إلى الجهة أو الجهات المختصة به في المخ.

على سبيل المثال إذا نظرت العين إلى شيء مضيء فإن شعاعا ضوئيا من هذا الشيء يرتطم بشبكةالعين وينتج تيارًا كهربائيًا ضعيفًا في العصب البصري، ويسير هذا التيار في الأكسون متجهًا إلى مؤخرةالمخ.

وإذا كانت العين تنظر إلى أحرف وكلمات متناثرة، ينتقل النشاط العصبي من مؤخرة المخ إلى المنطقةالصدغية في المخ، وهي المنطقة التي تختص بحل شفرة الأحرف والكلمات.

فإذا كانت العين تنظر إلى كلمات تصف منظرا أو صورة، سينتقل التيار بعد ذلك، إلى المنطقة الجداريةفي المخ حيث يتم تقييم واستيعاب ما يقرأ، واذا كانت العين تنظر إلى كلمات أو صورة لها ذكرى عندالمشاهد، فالتيار سينتقل الآن إلى منطقة الجبين في المخ حيث تتمركز الذاكرة التي عن طريقها يحاولالمشاهد استرجاع تلك الذكرى، وهكذا، بسرعة فائقة تتحول الصورة إلى فهم، إلى أفكار، إلى أحاسيس،إلى استرجاع ذكريات.   

 

كيف نعرف أن منطقة ما من المخ تتنبه أثناء قيامها بوظيفة ما؟

عندما تتنبه وتنشط منطقة في المخ، فهي تستهلك الأكسجين الذي يجلبه الهيموجلوبين، ويظهر هذافي شكل تغير في الصفات المغناطيسية في هذه المنطقة الذي يرصد بطريقة FMRI. فعلى سبيلالمثال، إذا أشععنا الضوء على العين، نجد منطقة مؤخرة الرأس تظهر نقطة مضيئة أو حمراء، دليل علىنشاط هذه المنطقة.

فكيف يتعرف التيار الكهربائي على طريق سيره؟ وكيف يعرف بعد أن نبه مؤخرة الرأس بالحروفوالكلمات المضيئة أن يذهب الآن إلى المنطقة الصدغية في المخ لكي يتم حل شفرة الأحرف والكلماتالتي قرأها المشاهد، وألا يتجه إلى جهات أخرى من المخ؟

يكتظ المخ بملايين الخلايا العصبية التي تتواصل مع بعضها بآلاف الملايين من الاتصالات عن طريقالزوائد وفروع الأكسون، فمن الممكن عن طريق وصلة أو وصلات متعددة أن تتصل أي خلية عصبية فيالمخ بأي خلية أخرى، ولكن هذا لا يحدث، لأن هناك مسارات كهربائية مفضلة تتكون نتيجة عملها، فإذالم يستعمل اتصال لفترة طويلة فتبتعد مكوناته (مثلا الزائدة وفرع الأكسون) عن بعضهما ويختفيالاتصال، والعكس صحيح: إذا اقتضت الحاجة إلى وجود وصلة فعالة، فإن فرع الأكسون والزائدة القريبينمن بعضهما ولكنهما غير متصلين يمتدان حتى يلتقيا، ويحدث هذا لأن المخ يتصف بالمرونة ويتغيرحسب الحاجة، وهو جهاز ينظم نفسه ذاتيًا ويتحكم في نفسه. وتعتبر صفتا المرونة والتنظيم الذاتي منأهم مميزات المخ.

وأيضا، عندما تتبين خلية عصبية أهمية صلة ما، فإنها تستمر في استعمالها وتشجع الخلايا الأخرى علىاستعمالها أيضًا. وبمرور آلاف السنين في عملية التطور الارتقائي، فإن بعض الخلايا العصبية المتماثلةتتجمع لتكوّن حزمة غليظة من الخلايا العصبية التي يكون لها وظيفة معينة.

وهكذا على مر آلاف السنين تجمعت الخلايا العصبية لتكوّن العصب البصري وانتهت إلى غرسه كعاملوراثي في الجسم، وأصبحت الرؤية صفة وراثية عند المخلوق ذي العصب البصري.

وتختلف القراءة عن الرؤية في أنها لا تُنقل عن طريق عصب العين أو عن طريق مسار عصبي مخصصلها، حيث إن القراءة قد ظهرت حديثًا في تاريخنا الإنساني، ونحن، كبشر لم نظهر على الساحة إلا أخيرًا،وبناء على ذلك، فإن بعض الصفات الخاصة بنا مازالت شديدة الحداثة وشديدة الهشاشة، ومن الممكنعدم ثبوتها في العوامل التي نتوارثها فتتبدد بمرور الزمن.

 

كيف أثرت القراءة في المخ وفي التفكير أثناء التطور؟

يذكر العلم أنه منذ ما يقرب من 30000 إلى 35000 عام مضت ظهر الإنسان  العصري: كان يصنع الزخارفوأشياء أخرى يتجمل بها، أي أنه كان يمتلك حسًا جماليًا، وينقش رسومات على جدار الكهف الذي يعيشفيه أي أنه كان يمتلك حسّا فنيا، ويدفن موتاه ويضع معهم احتياجاتهم، أي أنه كان يمتلك حسّاروحانيًا، ويعتقد في الحياة بعد الموت.

ومن المعتقد علميا أن التغيير الذي حدث في مخ الإنسان العصري، أو في أحباله الصوتية، قد أتاح لهاستعمال الكلمة والجملة كوسيلة للاتصال، ومن غير المعروف إذا كان التغيير قد حدث أولاً في الأحبالالصوتية مما أتاح له القدرة على الكلام والاتصال، وأثر هذا بشكل ثانوي على مخه، أم أن التغيير حدثأولاُ في مخه، وثانويًا تأثرت أحباله الصوتية، وعرف الكلام. وفي كلتا الحالتين، هكذا ظهر استعمالالكلام كوسيلة للاتصال عند الإنسان العصري.

العلامة البداية

وجد العلماء في بلاد الرافدين ما يفيد بأن الإنسان منذ 7000 – 10000 عام مضت كان يستعمل علاماتخطية على الصلصال ليعبر بها عن أشياء مثل عدد الأغنام، وكان هذا دليلا على قدرته الذهنية أن يفسركونه ويعبّر عن فكره بطريقة تجريدية. ومن قبله فإن الإنسان الذي كان يرسم الحيوانات على حوائطالكهوف كان أيضًا يفسر كونه، ولكن تفسيره لم يكن يرقى إلى درجة الفكر التجريدي.

ومنذ حوالي ستة آلاف سنة، تقدم السومريون والمصريون خطوةً الى الأمام عندما استنبطوا الأبجديةالخاصة بكل منهم، فاستعمل السومريون الخط المسماري والمصريون الخط الهيروغليفي. وفي كل لغةمنهما كان يوجد الكثير من الحروف.

وقد بدأت كل من الأحرف المسمارية والهيروغليفية على هيئة صور لأشياء أو لأنشطة عادية،  وبمرورالسنين تطور بعضها إلى عروض صوتية أكثر تجريدًا. ومن المعتقد أن طريقة عرض كل حرف من تلكالأبجديات المعقدة، إما كصوت أو كشيء أو كنشاط. ومثل هذا العدد المتزايد من الأحرف قد أثقل علىالمخ وجعله يتباطأ في عملية فك الشفرة.

المشافهة الأولى:

في كثير من الثقافات كانت هناك فترة مشافهة أولى، تراجعت عندما بدأت الشعوب في استعمالالكلمة المكتوبة على نطاق واسع. وقد اهتم العلماء منذ زمن بمعرفة حقيقة ما إذا كانت القراءةوالكتابة تحدثان تغيراً في طريقة تفكير الإنسان أم لا. ومن أوائل من اهتم بهذا السؤال كان مؤسسعلم النفس الإدراكي، العالم الروسي «ألكساندر لوريا».

استجوب لوريا في سنة 1930 مجموعتين من الفلاحين من أوزباكستان وكيرجيستان: مجموعة من الأميينومجموعة ممن تعلموا القراءة والكتابة حديثاً، فوجد أن الفلاحين الأميين لديهم طريقة تفكير «وظيفيةتخطيطية»  تختفي فور تعلمهم القراءة. ففي وصف اللون الأبيض يقول الأمي «لون القطن فيالأزهار»، وعندما يُعرض عليه صور الفأس والبلطة والمنشار وكومة خشب ثم يُطلب منه تحديد ثلاثةأشياء متشابهة لا يستطيع إخراج كومة الخشب من المجموعة، فبالنسبة له الثلاثة أدوات تُستعمل فيقطع الخشب، إذاً، فالأربعة أشياء متشابهة. وأيضا، عندما يُعرض عليه أربع صور لثلاثة رجال وصبي، ثميُطلب منه استبعاد الصورة الغريبة لا يستطيع إخراج صورة الصبي وعندما يُسأل لماذا ؟ يقول لأنه يجبأن يبقى الصبي مع الرجال لمساعدتهم. وهكذا نجد أن الأميين البدائيين يفكرون بأسلوب تخطيطيووظيفي وليس بأسلوب تجريدي.

 

واستناداً إلى دراسات عدة مثل دراسات لوريا، قام الفيلسوف الأمريكي ولتر أونج بتحليل جليّ للعقلالشفهي استنتج من خلاله أن المتعلم يمكن أن يقلّب في ذهنه الأفكار بطريقة مجردة ولكن الإنسانالذي يعيش في عصر المشافهة، الذي لا يكتب ويريد الحفاظ على أفكاره في ذاكرته، يلجأ إلى «نوعالأفكار التي تساعده على التذكر، فيبالغ فيما يقول حتى يضمن توصيل قوله للآخرين. ونلاحظ هذهالمبالغة في أبطال ملاحم الثقافة الشفهية مثل أبو زيد الهلالي، وأبطال الملحمة الإغريقية «الإلياذة»والملحمة السومرية «جلجاميش» التي كتبت بالخط المسماري على الألواح الطينية. وفي المشافهة نجدالأبطال خارقي البطولة، والأكلاشيهات، كذلك نجد الوصف الحماسي للعنف البدني. وقد لاحظ أونج أنانتحال مؤلفات الآخرين كان مقبولاً في المشافهة، ولكن الغوص في الأمور وتحليلها كان غير مستحب،ذلك لأن في التحليل مخاطرة بأسس أفكار الأكلاشيهات التي هي عنصر أساسي في المشافهة. كذلك،لاحظ أن للتطويل وللإعادة أهمية في المشافهة لأنهما ترسخان أفكار المشافهة.

ولاحظ أونج في الثقافة الشفهية أن ما يقال الآن هو تماماً ما يُؤخذ به، أما ما قيل قبل ذلك، فليس لهأهمية. لذلك نجد أن المجتمعات المتعلمة هي التي تنظر نظرة انتقادية إلى الأحداث، وتهتم بتعليلالمتناقضات في تاريخها، وفي هذه المجتمعات يبتعد التاريخ عن الأساطير.

 

وفي عام 750 ق.م. استنبط الإغريق أبجدية بسيطة بها عدد قليل من الأحرف، يستطيعون من خلالها أنيعبروا عن كل رمز صوتي بحرف أو حرفين فقط. كان هذا حدثاً علمياً كبيراً لأنه جعل في مقدور أيشخص أن يتعلم القراءة، بدلاً من أن تبقى القراءة مقصورة على الكتبة المهرة.

 

ما تأثير تقدم اللغة الإغريقية المكتوبة؟

نتج عن تقدم وتطورالأبجدية واللغة المكتوبة عند الإغريق أنهم لم يعودوا محتاجين إلى حفظ قصصهمشفهيًا، وأصبح في إمكانهم الحفاظ على تقاليدهم وكامل ثقافتهم في كتاباتهم. ويقال إن عدموجود ضرورة ملحة للحفاظ على المعلومات في الذاكرة قد ساعد على تحرر العقل وساعد الإغريق علىالفهم والتفكير، وكان هذا سبب ازدهار حضارتهم.

فهل هذا يعني أن الأبجدية المعقدة والتي تتكون من آلاف الأحرف مثل أبجدية الصين أو اليابان لا تحررعقل أصحابها وتمنع ازدهارهم الحضاري؟ لا أتفق مع هذا الرأي بل أعتقد أن ميزة الأبجدية الإغريقيةهي ديمقراطية القراءة والكتابة. فالصينيون واليابانيون يبذلون كثيرًا من الجهد لحفظ الأبجدية الخاصةبهم، ولكن ما إن يتخطوا هذه العقبة يصبح في إمكانهم القراءة والكتابة بنفس سهولة الإغريقأصحاب الأبجدية البسيطة، وبالفعل يمكن القول إن المجهود الذي يبذلونه في تعلم أبجديتهم مكسبلهم لأنه يزيد من عملية اتصالات الخلايا العصبية في مخهم، وبذلك، يكون سببًا في ازدهار حضارتهم،ودليل هذا توصل الصينيون على مر السنين إلى اختراعات عديدة مثل صناعة الورق، والطباعة بالأحرفالمتحركة، والبارود، والحرير، والساعات، والمعكرونة، والأرقام العربية، والموازين والمقاييس الموحدة.

 

والحضارات في مجملها تتتابع، فبعد الحضارة الإغريقية جاءت مجموعة من الحضارات مثل حضارة واديالهندوس والحضارة الصينية والرومانية ومن بعدهم الحضارة العربية والإمبراطورية العثمانية وعصرالنهضة… إلخ.

 

أضافت كل من هذه الحضارات شيئاً للتقدم الإنساني ، فأثناء الأزمنة الفرعونية والهيلينية كان الكتبةيكتبون على ورق البردي أو الجلد أو الحجر، لذا لم تكن الكتابة شيئاً عملياً يساعد على الانتشار في نطاقواسع.

وقبل القرن التاسع اخترع الصينيون الورق والطباعة بقالب الخشب، كما اخترعوا الطباعة بالحروفالمتحركة، ولكن لأن هناك حوالي ألفي حرف أبجدي في اللغة الصينية فلم يستطع الصينيون الاستفادةمن اختراع الورق أو الطباعة بالحروف المتحركة. وعندما فاز العباسيون في معركة “تالس” فيكيرجيستان وهزموا الصينيين عام 751، أسروا بعض الصينيين الذين دربوهم علي صناعة الورق، وبدورهمساعد العباسيون على انتشار الورق عن طريق تحويل صناعته من الطاقة  اليدوية إلى الطاقة المائية.

وفي منتصف القرن الخامس عشر حدث تقدم علمي مهم آخر وهو اختراع جوتنبرج لآلة الطباعة بالحروفالمتحركة، وهو اختراع الصينيين نفسه من مئات السنين، ولكن هذه المرة لأن الحصول على ورق زهيدالثمن للكتابة كان متيسراً، نتج عن هذا ديمقراطية في وسيلة الحصول على الكتب، وأصبح في مقدورالكثيرين ليس فقط قراءة الكتب بل أيضًا امتلاكها. وهكذا، بدأت طفرة جديدة في عالم القراءة، وبدأهذا العالم في الازدهار.

 

التلفاز والقراءة

في منتصف القرن العشرين ظهر التلفاز الذي أثر على صلتنا بالقراءة وعلى طريقة معيشتنا. ولكي نقيّمما حدث إثر ظهور التلفاز يجب أن نفحص كيف ننمو كأفراد.

في رحلة نضوجه من جنين إلى إنسان ناضج، كيف تتطور وظائف مخه التي لها صلة بالقراءة؟

أثناء تطور الجنين تهاجر الخلايا المعنية بتكوين المخ إلى البؤرة التي يبدأ فيها نمو المخ، ويبدأ هذاالنمو من الداخل إلى الخارج من خلال إعادة أداء التطور الارتقائي، لذا فأول الأجزاء التي تنمو في جسمالجنين هي التي تكّون المخ البدائي (النخاع وما تحت المهاد) ثم تليها الطبقات الداخلية لقشرة المخوبعد ذلك الطبقات المتوسطة، وأخيراً الطبقات الخارجية التي تختص بالوظائف العليا للمخ أي التفكيرالأرقى (مثل الفكر التجريدي). هذه الطبقات الخارجية هي المؤشر الذي يفرق البشر عن المخلوقاتالأخرى، وهي أيضًا أكثر الخلايا رقة وهشاشة، فمعظمها يموت أثناء الانتقال إلى حافة القشرة المخية.كذلك، وجودها في السطح الخارجي للمخ يعرضها للإصابة بسهولة وتعتبر كل هذه الأسباب أسباباًإضافية لهشاشة النوع البشري.

بعد الولادة، يفكر الطفل الرضيع بنفس بالصورة نفسها مثله مثل الحيوان، ويستخدم كل مخه بطريقةغير مخصصة للتفكير. من هذا المنطلق نجد صور الـFMRI للطفل أشبه بصور الحيوان أكثر منها بصورالرجل البالغ .

وعندما تُكثر الأم من الكلام لطفلها فهي تعلمه كيف يجمع بين الصور وما يوازيها من كلمات، ومع هذاالجمع يلقن الطفل مخه الأيسر على التفكير بالكلمات. بعد ذلك، عندما يتعلم القراءة ويبدأ في فهمرموز الحروف يتمركز حل شفرة الكلمات ومعانيها في المنطقة الصدغية اليسرى من مخه، ويتمركز تقييمما يقرأ في المنطقة الجدارية اليسرى من مخه.

إن الإنسان هو الجنس الوحيد الذي يوجد به اختلاف وظيفي بين نصفي المخ، اليساري واليميني،والإنسان هو الجنس الوحيد أيضًا الذي ينظم الكلمات في  جمل ليعطي أفكارا معقدة ويقرأ، فالقراءةوتوصيل جمل وأفكار معقدة هي دلالة إنسانيتنا، ونلاحظ أن شعار إنسانيتنا هذا قد أصبح مهددًا بظهورالتلفاز الذي أدخلنا فيما أسماه الفيلسوف “أونج” بالمشافهة الثانية.

المشافهه الثانية:

المشافهة هي الحالة التي تنتقل فيها الثقافة شفهيًا بين الأجيال، وكما رأينا فمشافهتنا الأولىحدثت في قديم الزمن عندما لم يكن الإنسان يعرف القراءة، أما مشافهتنا الثانية فهي تحدث في وجودالكتابة رغما عنها، وهي مرهونة بوجود التلفاز والسينما والفيديو والتليفون.. إلخ.

ومن بين كل هذه العناصر فربما يكون التلفاز هو الأكثر تأثيرًا لأنه في بيوتنا، وتحت تصرفنا في كلساعات النهار والليل، وهو لا يحتاج أحد غيرنا ويشبع حواسنا بصوره المتحركة والمتكلمة.

وقد كشف ظهور التلفاز عن الخلاف القوي التنافسي بين الكلمات والصور المتحركة. لم يكن هذا الخلافمعروفًا من قبل. وقد تبين فيما بعد أن الأولاد الذين يشاهدون التلفاز لساعات طويلة يتخلفون فيموادهم الدراسية وفي القراءة والرياضيات ويصبحون عندما يكبرون بما يسمى بـ “أليتريت” Alliterate أيأنهم يستطيعون القراءة، فهم بالطبع ليسوا أميين Illiterate ولكنهم لا يستمتعون بنعمة القراءة حيثإنهم ليس لديهم الصبر عليها، خاصةً إذا كان ما يقرأونه لا يحتوي على صور!!! كذلك أظهرت الدراساتأن الأطفال الذين يقضون الساعات الطويلة أمام التلفاز يفقدون خاصية الإبداع، لأن التلفاز يقدم لهمصورًا مسبقة التصنيع تجعل تخيلهم يكسل فلا يتخيلون ولا يبدعون.

وفي دراسة أُجريت في مصر قام بها قسم طب الأطفال في جامعة عين شمس ظهر أن معدل ساعاتالمشاهدة للتلفاز بين الأطفال جاوز الأربع ساعات يوميًا، وذلك أثناء السنة الدراسية حيث يُفترض أن تقلنسبة مشاهدتهم.

ويبدأ الخلاف التنافسي بين الكلمات والصور المتحركة مبكرًا في حياة الأطفال، فعندما يشاهد الأطفالمن سن ثمانية أشهر إلى 16 شهراً التلفاز أو «الدي في دي» أو الفيديو يوميًا، ينتقص هذا من مجموعمفردات لغتهم، من 6 إلى 8 كلمات عن كل ساعة مشاهدة يومية. ولوجود هذا الخلاف التنافسي فيفترة تعلم الكلام، فقد أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في عام 1999 بعدم مشاهدة الأطفالللتلفاز إذا كان عمرهم سنتين فما أقل، وساعتين فقط يوميًا إذا كانوا أكبر من سنتين.

لقد قامت مؤسسة «الوقف القومي للفنون» الأمريكية بمقارنة الصفات العامة لفئة القارئين ولغيرالقارئين، فوجدت أن القارئ يميل أكثر إلى ممارسة الرياضة، أو التمارين الرياضية، وإلى زيارة المتاحفوالذهاب إلى المسارح، وحضور الحفلات الموسيقية، وهي مقارنةً بغير القارئ، يتطوع أكثر وينتخببانتظام أكثر، أي أنه أكثر إيجابية في حياته، ولا يخشى التغيير، وقد يرجع ذلك إلى الإيجابية في الخيالالذي تضفيه القراءة، أو إلى أن عزلته مع كتبه أثناء القراءة تعطيه الثقة الكافية للانطلاق، فتصبح بذلكالقراءة نموذجاً للخيال وللحرية.