كيف يمكن لـ«كوفيد-19» الإضرار بالدماغ؟
عض ممن أُصيبوا بفيروس كورونا تظهر عليهم أعراض اعتلال عصبي. وحتى الآن، يواجه العلماء صعوبات في الوقوف على أضرار “كوفيد-19” على الدماغ.
تشير أدلة مستمدة من عُضوانيّات إلى أن فيروس “سارس-كوف-2” يمكن أن يصيب الدماغ. والعُضوانيّات هي تكتلات مُصغّرة من الخلايا العصبية، تُنتج في صحون.
Erik Jepsen/UC San Diego
خُيل لسيدةٍ مشاهَدة أُسُود وقردة في منزلها، وبدأت تساورها حالة من الارتباك والتشوّش والعدوانية تجاه الآخرين، وباتت على اقتناع بأنّ زوجها هو محتال يدَّعي أنها زوجته. كانت في منتصف العقد الخامس من عمرها –أي أن سنها تجاوز المرحلة التي ينشأ فيها عادةً الذهان بعقود– ولم يكن لديها تاريخ سابق من الإصابة باضطرابات نفسية. كان ما أَلَمَّ بها في الواقع هو مرض “كوفيد-19”. وتُعَد حالتها هذه أولى الحالات المعروفة لأشخاص أُصيبوا بالذُّهان، بعد مرضهم بـ”كوفيد-19″1.
في الأشهر الأولى من انتشار جائحة “كوفيد-19″، واجه الأطباء صعوبات في الإبقاء على عمل الوظائف التنفسية لدى المرضى، وانصَبّ تركيزهم -بشكل رئيس- على علاج الضرر اللاحق برئات المصابين، وأجهزتهم الدورية، بيد أنه حتى في ذاك الوقت، أخذَتْ تتراكم أدلة على وجود تأثيرات عصبية للفيروس المسبب للمرض؛ فبعض المرضى الذين أُودعوا مستشفيات من جرّاء الإصابة بـ”كوفيد-19” عانوا هذيانًا، أصيبوا فيه بحالة من الارتباك، والتشوّش، والقلق، والهياج 2. وفي شهر إبريل الماضي، نشر3 فريق بحثي في اليابان أول تقرير عن مصاب بـ”كوفيد-19″ عاني تورمًا والتهابًا في أنسجة الدماغ. ووصف تقرير4 آخر حالة مريض عانى تلفًا في طبقة المَيَالين الدهنية التي تحمي الخلايا العصبية، وتتضرّر على نحو غير قابل للإصلاح في الأمراض التنكّسية العصبية، مثل التصلُّب المتعدّد.
وفي ذلك الصدد، يقول أليسون موتري، عالِم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا، في سان دييجو في لاهويا: “لا شك أن الأعراض العصبية للمرض تسلك منحنى مفاقمًا للمخاوف”.
وتتضمن حاليًّا قائمة أعراض الاعتلال العصبي لدى المصابين بالمرض السكتات الدماغية، ونزيف الدماغ، وفقدان الذاكرة. وتجدر الإشارة إلى أنه من المألوف أن تتسبب الأمراض الخطرة في إحداث مثل تلك التأثيرات، لكن حجم انتشار جائحة “كوفيد-19” يعني أن الآلاف -أو حتى عشرات الآلاف- من الأشخاص يمكن بالفعل أن تصيبهم هذه الأعراض، وربما يواجه بعضهم مشكلات تستمر معه طوال حياته من جرّاء الإصابة بالفيروس.
وحتى الآن، يسعى الباحثون جاهدين من أجل الوصول إلى إجابات عن أسئلة محورية، منها أسئلة أساسية، مثل: كم شخصًا يعاني من هذه الحالات؟ ومَن المعرَّضون لخطر الإصابة بها؟ والأهم من ذلك، يرغب الباحثون في معرفة الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الأعراض تحديدًا.
وبالرغم من أن الفيروسات تستطيع غزو الدماغ، وإصابته بالعدوى، ليس واضحًا ما إذا كان فيروس “سارس-كوف-2” يتسبب في إصابة بالغة للدماغ، أم لا. وفي المقابل، ربما تكون هذه الأعراض العصبية ناتجة عن فرط تحفيز الجهاز المناعي. ومن الأهمية بمكان اكتشاف إجابات تلك الأسئلة، لأن هذين السيناريوهين يتطلبان نظامَي علاج مختلفين تمامًا. ومن هنا، يقول بينيديكت مايكل، اختصاصي الأعصاب من جامعة ليفربول بالمملكة المتحدة: “لهذا السبب، تُعَد معرفة آليات المرض شديدة الأهمية”.
إصابات دماغية
مع استشراء الجائحة، كان مايكل وزملاؤه من بين علماء كثيرين شرعوا في جمع تقارير عن حالات مصابة بمضاعفات عصبية مرتبطة بمرض “كوفيد-19”.
ففي ورقة بحثية5 تعود إلى شهر يونيو الماضي، حلل مايكل وفريقه البيانات الإكلينيكية الخاصة بـ125 مصابًا بمرض “كوفيد-19” في المملكة المتحدة، ظهرت عليهم تأثيرات عصبية أو نفسية للمرض. وعانى 62% منهم خللًا في تدفق الدم إلى الدماغ، مثل حالات السكتة الدماغية، ونزيف الدماغ. كما أصيب 31% منهم بتغيرات في الحالة العقلية، مثل الارتباك، أو فقدان الوعي المطوَّل، المصحوب أحيانًا بالتهاب الدماغ، وتورم الأنسجة الدماغية. وكشفت الدراسة عن أن عشرة أشخاص من المصابين بتغيرات في الحالة العقلية أُصيبوا بالذُهان.
وبالإضافة إلى ما سبق، لم يكن جميع الأشخاص الذين ظهرت عليهم أعراض عصبية ممن أُودِعوا وحدات عناية مركزة، وأُصيبوا بدرجة خطيرة من المرض. يقول مايكل: “لاحظنا مجموعة من المرضى الأصغر سنًّا، لم يبد أن لديهم عوامل الخطر التقليدية المهددة بهذه الاضطرابات، لكنهم أُصيبوا بسكتات دماغية. كما رصدنا مرضى طرأت عليهم تغيرات حادّة في الحالة العقلية، لا يمكن تفسيرها بتشخيص آخر”.
كما جمعت دراسة1 مشابِهة نُشرت في شهر يوليو الماضي تقارير حالات مفصلة عن 43 شخصًا أصيبوا بمضاعفات عصبية من جرّاء مرض “كوفيد-19”. وقد أخذت أنماط مشتركة بين هؤلاء المرضى تتضح، حسب ما أدلى به مايكل زاندي، اختصاصي الأعصاب بكلية لندن الجامعية، والباحث الرئيس بالدراسة. فالتأثيرات العصبية التي كانت الأكثر شيوعًا هي السكتات الدماغية، والتهاب الدماغ، الذي يمكن أن يتفاقم إلى صورة حادة منه، يُطلق عليها التِهابُ الدِّماغِ والنُّخاعِ المُنتَثِر الحادّ، حيث يُصاب كلٌّ من الدماغ والنخاع الشوكي بالالتهاب، وتفقد الخلايا العصبية طبقاتها من المَيَالين، وهو ما يؤدي إلى أعراض شبيهة بتلك المصاحِبة للتصلّب المتعدّد. وجدير بالذكر أن بعض المرضى المصابين بأشدّ هذه الحالات لم يعانوا سوى أعراض تنفسية بسيطة؛ حيث يقول زاندي معقبًا على ذلك: “كان الضرر الواقع على الدماغ هو المرض الرئيس الذي أصابهم”.
وتضمنت المضاعفات الأقل شيوعًا تلف الأعصاب الطرفية، وهو عرَض نموذجي من أعراض متلازمة جيلان باريه، يُطْلِق عليه زاندي اسم “خليط الاضطرابات”، مثل القلق، واضطراب الكرب التالي للرضح. وقد لُوحظت أعراض مشابِهة في موجات تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد الوخيم (SARS)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة (MERS)، اللتين تتسبب فيهما أيضًا فيروسات تاجية، لكن أُصيب عدد أقل من الأشخاص بالعدوى أثناء موجات تفشي هاتين المتلازمتين، وبالتالي، تتوفر بيانات أقل عنهما.
كم عدد المصابين بهذه الاضطرابات العصبية؟
لا يعرف الأطباءُ بعد مدى شيوع هذه التأثيرات العصبية. وقد قدّرت دراسة6 أخرى -نُشرت في شهر يوليو الماضي- حجم انتشار تلك التأثيرات باستخدام بيانات مشتقة من دراسات لفيروسات تاجية أخرى. وعلى سبيل المثال، ظهرت الأعراض التي تؤثر على الجهاز العصبي المركزي لدى 0.04% على الأقل من الأشخاص المصابين بمتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد الوخيم، ولدى 0.2% من الأشخاص المصابين بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة. وبالنظر إلى أنه توجد حاليًّا 28.2 مليون حالة تأكدَتْ إصابتها بمرض “كوفيد-19” على مستوى العالم، فهذا قد يعني ضِمنًا أن عددًا يتراوح ما بين 10 آلاف إلى 50 ألف شخصٍ عانى من مضاعفات عصبية.
وتكمن المشكلة الكبرى لدى حصر عدد الحالات المصابة بهذه المضاعفات في أن اهتمام الدراسات الإكلينيكية انصبّ عادةً على الأشخاص المصابين بفيروس “كوفيد-19” ممن أُودعوا مستشفيات، وهم -في الأغلب- الأشخاص الذين تطلبت حالاتهم عناية مركزة. ويمكن أن تبلغ نسبة انتشار الأعراض العصبية لدى هذه المجموعة “أكثر من 50%”، حسب قول فيرناندا دي فيليس، اختصاصية البيولوجيا العصبية من جامعة ريو دي جانيرو الفيدرالية بالبرازيل، بيد أنه لا تتوفر سوى معلومات أقل كثيرًا عن الأشخاص الذين عانوا اعتلالًا بسيطًا، أو لم يصابوا بأعراض تنفسية على الإطلاق.
وتعني ندرة البيانات في هذا الصدد أنه من الصعب اكتشاف الأسباب التي تجعل بعض الأشخاص يصابون بأعراض عصبية، دون غيرهم. وما زال مبهَمًا ما إذا كانت التأثيرات العصبية لـ”كوفيد-19″ ستستمر لفترة طويلة، أم لا؛ فيمكن أن تكون للمرض تأثيرات صحية أخرى تتواصل لمدة شهور، وقد أصابت فيروسات تاجية مختلفة بعض الأشخاص بالأعراض لسنوات.
عدوى، أم التهاب؟
من جهة أخرى، يُعَد السؤال الأكثر إلحاحًا في منظور كثير من علماء الأعصاب هو: لماذا يتأثر الدماغ من الأساس؟ وتقول دي فيليس في هذا السياق إنه على الرغم من أن نمط الاضطرابات ثابت نوعًا ما، فآليات المرض الأساسية غير واضحة بعد.
وسيساعد التوصلُ إلى إجابة هذا السؤال الأطباءَ الإكلينيكيين على اختيار العلاجات المناسبة. ويوضح مايكل هذا قائلًا: “إذا نتج المرض عن عدوى فيروسية مباشِرة للجهاز العصبي المركزي، فينبغي أن نتوجه إلى المرضى في هذه الحالة بعقار “ريمديسيفير” remdesivir، أو مضادات فيروسات أخرى لعلاجهم. أما إذا لم يوجد الفيروس في الجهاز العصبي المركزي، فربما يكون قد غادر الجسم، وسنحتاج حينها إلى استخدام العلاجات المضادّة للالتهاب”.
ومن شأن الخطأ في اختيار العلاج أن يسبب أضرارًا؛ حيث يقول مايكل: “لا طائل من وراء إعطاء شخص مضادّات فيروسات، إذا لم يكن الفيروس في جسمه بالفعل، كما أن إعطاء مضادّات الالتهابات إلى شخص يعاني وجود فيروس في دماغه سيكون محفوفًا بالمخاطر”.
وثمة دليل دامغ على أن فيروس “سارس-كوف-2” يمكن أن يصيب الخلايا العصبية بالعدوى. فقد تخصص فريق موتري في تصميم “عُضوانيّات”، هي تكتلات مُصغّرة من أنسجة دماغية، أُنتجت عن طريق تحفيز الخلايا الجذعية البشرية متعدّدة القدرات على التمايُز إلى خلايا عصبية.
وفي مسوّدة7 من دراسة هذا الفريق، نُشرت في شهر مايو الماضي، أوضحت المجموعة البحثية أن فيروس “سارس-كوف-2” يمكن أن يصيب الخلايا العصبية في هذه العُضوانيّات، حيث يقتل بعضها، ويقلل تكوين المشابك العصبية بينها. ويبدو أن دراسات اختصاصية المناعة أكيكو إواساكي وزملائها في كلية الطب بجامعة ييل في نيوهايفن بولاية كونيتيكت تؤكد ذلك باستخدام عُضوانيّات بشرية، وأدمغة فئران، وبعض الفحوص التشريحية المُجراة عقب وفاة المرضى، طبقًا لمسوّدة من دراسة الفريق، نُشرت في الثامن من سبتمبر8، غير أنه لا تزال هناك أسئلة بشأن الكيفية التي يُحتمل أن يصل بها الفيروس إلى أدمغة الأفراد.
وبما أن فقدان حاسة الشم عَرَضٌ شائع للمرض، تساءل اختصاصيو الأعصاب عن مدى احتمالية أن يقوم العصبُ الشمّيّ بدور مسار لدخول الفيروس، أم لا. ويقول مايكل عن ذلك: “تخوف الجميع من هذه الاحتمالية”، إلا أن الأدلة تدحض هذا الاحتمال.
ففي أواخر شهر مايو الماضي9، نشر فريق بقيادة ماري فوكس -اختصاصية علم الأمراض بكلية آيكان للطب في مستشفى ماونت سايناي بمدينة نيويورك- مسوّدة دراسة تصف فحوصًا تشريحية أُجريت على 67 شخصًا، عقب وفاتهم بسبب مرض “كوفيد-19”. وتقول فوكس عن ذلك: “شاهدنا الفيروس في الدماغ نفسه”، إذ كشفت المجاهر الإلكترونية عن وجوده، لكنّ مستوياته كانت منخفضة، ولم تُرصد بصورة ثابتة. وفضلًا عن ذلك، إذا كان الفيروس يغزو الجسم عن طريق العصب الشمّيّ، فيُفترَض أن تكون المنطقة المرتبطة بهذا الغزو في الدماغ هي أولى المناطق المتأثرة. وتُتابِع فوكس كلامها قائلة: “لم نجد -ببساطة- أثرًا للفيروس في البصلة الشمّيّة”. وتضيف أن مواضع العدوى بالأدمغة كانت صغيرة، وتجمعت عادةً حول الأوعية الدموية.
ويؤيد مايكل الرأي القائل إنّ العثور على الفيروس في الدماغ صعب، مقارنة بالعثور عليه في الأعضاء الأخرى. فالاختبارات التي تستخدم تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) لا تُكتشف غالبًا الفيروس في الدماغ، على الرغم من دقتها الكبيرة، كما أنّ دراسات عدة لم تجد أي جسيمات للفيروس في السائل الدماغيّ الشوكي الذي يحيط بالدماغ والحبل الشوكي (انظر -على سبيل المثال- المرجع رقم 10). ولعل أحد الأسباب وراء ذلك هو أن المستقبِل ACE2 -وهو بروتين موجود على الخلايا البشرية التي يستخدمها الفيروس من أجل دخول الجسم- لا يتم التعبير عنه كثيرًا في خلايا الدماغ11.
ويعقب مايكل على ذلك قائلًا: “يبدو أن إصابة الجهاز العصبي المركزي بعدوى فيروسية أمر نادر الحدوث إلى حد بعيد”. وهذا يعني أن مشكلات عديدة من تلك التي يرصدها الأطباء هي -على الأرجح- نتيجةً للحرب التي يشنها الجهاز المناعي للجسم على الفيروس.
ومع ذلك، قد لا ينطبق هذا على جميع الحالات، وهو ما يعني أن الباحثين سيحتاجون إلى التعرّف على العلامات الحيوية التي يمكنها التمييز بصورة موثوقة بين العدوى الفيروسية في الدماغ، وتداعيات النشاط المناعي. وهذا بدوره يعني في الوقت الحالي ضرورة إجراء المزيد من البحوث الإكلينكية، والفحوص التشريحية التالية للوفاة، والدراسات الفسيولوجية.
وختامًا، تقول دي فيليس إنها وزملاؤها يعتزمون تتبع أحوال المرضى الذين تعافوا بعد إيداعهم وحدات عناية مركزة، كما يخططون لإنشاء بنك حيوي من العينات، ومنها عينات السوائل الدماغية الشوكية. أما زاندي، فيشير إلى أن دراسات مشابهة بصدد البدء في كلية لندن الجامعية. ولا شك أن الباحثين سيدرسون عينات كهذه لسنوات وسنوات. ويقول مايكل إنه على الرغم من أن الأسئلة التي يطرحها الباحثون طرأت إبان موجات تفشي جميع الأمراض تقريبًا، فمرض “كوفيد-19” يطرح تحديات وفرصًا جديدة. ويضيف قائلًا: “لم نشهد منذ عام 1918 جائحة بمثل هذا الحجم”.
المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2020/11/d41586-020-02599-5/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%84%D9%80%C2%AB%D9%83%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%AF-19%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%BA%D8%9F