هل يمكن لعدوى ميكروبية أن تسبب الإصابة بمرض ألزهايمر؟
على مدى عقود، طُرحت نظريةٌ غير شائعة، تربط بين داء الخرف، والإصابة بعدوى ميكروبية. وها قد حانَ الوقت لدراسة ما قد يكون بينهما من صلات.
كان ذلك قبل عامين، حين أعلن ليزلي نورينز، اختصاصي المناعة، ورائد الأعمال في مجال نشر البحوث الطبية، أنَّه سيَمنح جائزةً قدرها مليون دولار أمريكي من ماله الخاص لأيّ عالِمٍ ينجح في إثبات أنَّ نوعًا من الجراثيم هو ما يقف وراء الإصابة بمرض ألزهايمر.
على مدى عقود، ترددت في الأوساط البحثية المعنية بدراسة علم الأعصاب نظرية تقول إنّ هذا النوع من الخرف قد يكون ناجمًا عن الإصابة بعدوى ما. غير أنَّ غالبية المتخصصين في أبحاث ألزهايمر يعتقدون -استنادًا إلى كَمّ هائل من الأدلة العلمية- بأنَّ المسؤول الأول عن الإصابة بهذا المرض يتمثل في جزيئات لزجة في الدماغ، تُعرف بالأميلويدات (amyloids)، وأنَّ هذه الجزيئات تتكتل مكونةً مناطق تُعرف باسم اللُّويْحَات (plaques)، التي تتسبب بدورها في حدوث التهابات، وتقتل الخلايا العصبية، ثم جاء نورينز بإعلانه عن هذه الجائزة، قاصدًا مكافأة أي جهدٍ بحثي يكون من شأنه أن تُصبح فكرة العدوى أقرب إلى التصديق، وأقدر على الإقناع؛ حيث إنّ فرضية الأميلويدات قد تحوَّلت -حسب قوله- إلى “الفكرة الوحيدة المقبولة، والمدعومة بالأدلة، وكأنما قد حاز ختم التصديق في الأوساط البحثية. أمَّا الرواد القلائل، ممَّن تناولوا فرضية الميكروبات، ونشروا أبحاثًا في هذا الصدد، فقد قوبلوا إما بالسخرية، أو بالتجاهل”.
يُعزَى هذا الموقف، في جانبٍ كبير منه، إلى أنَّ بعضًا من أوائل مؤيدي نظرية العدوى قد طرحوها بوصفها بديلًا لفرضية الأميلويدات. لكنَّ بعض الأبحاث الحديثة وَفَّر لنا أدلةً مثيرةً للاهتمام، تُلمِح إلى إمكانية التوفيق بين كلتا الفكرتين، أي أنَّ الإصابة بالعدوى يمكنها أن تتسبب في نشوء بعض حالات مرض ألزهايمر، من خلال تحفيز إنتاج تكتلات الأميلويدات.
تشير البيانات المستقاة من هذه الأبحاث إلى أنَّ للأميلويدات دورًا محوريًّا في الخلايا العصبية؛ فبدلًا من كونها مجرد نوعٍ من الفضلات السامة الناتجة، قد تكون لها وظيفةٌ مهمة، تتمثل في المساعدة على حماية الدماغ من العدوى. غير أنَّ التقدم في السن ربما يعطل الآليات التي تضبط الوظائف المختلفة في منظومة الجسم، أو ربما تفعل ذلك بعض العوامل الجينية، مما يُحِيل الأميلويدات مِن مُدافع عن الجسم إلى عدو يهاجمه.
تطرح هذه الفكرة مقارباتٍ جديدة لاستكشاف العلاجات المحتملة للمرض. ولإخضاع الفرضية إلى مزيدٍ من الفحص والتمحيص، يعكف العلماء حاليًّا على تطوير نماذج حيوانية تحاكي مرض ألزهايمر، متوخِّين درجةً أكبر من الدقة. وفي هذا الصدد، يقول بار دو ستروبيه، عالِم الأعصاب الذي يشغل منصب مدير معهد المملكة المتحدة لأبحاث الخرف، التابع لكلية لندن الجامعية: “إنَّنا نأخذ هذه الأفكار على محمل الجد”.
تكتُّلات خانقة
تذهب فرضية الأميلويدات إلى أنَّ مرض ألزهايمر ينتج عن تراكم بروتيناتٍ لزجة قابلة للذوبان في الفراغات الفاصلة بين خلايا الدماغ، تُعرَف باسم ببتيدات “أميلويد-بيتا” amyloid-β. تنفصل هذه الببتيدات عن بروتينٍ آخر موجود في أغشية الخلايا العصبية. وما إنْ تنفصل هذه الببتيدات، وتتحرك بِحُرّية، حتى تتكتل معًا في تكويناتٍ أكبر حجمًا. وفي حال لم تنجح إنزيماتٌ بعينها في التخلص من هذه التكوينات بالكفاءة الكافية، فإنَّها تتجمع لتكوين ما يُسمَّى باللويحات، التي تحفز بدورها حدوث سلسلة قاتلة من التفاعلات؛ فتسبب التهابًا في الخلايا العصبية، وتُنتِج حِزَمًا من البروتينات الليفية اللزجة، تُسمَّى “تشابكات تاو”، وتكون النتيجة هي موت الخلايا العصبية إثر تعرضها لهذه النكبات.
يشير منتقدو هذه الفرضية إلى أنَّ هناك الكثيرين ممَّن لم يعانوا من مرض ألزهايمر، وتبيَّن بعد وفاتهم أنَّ أدمغتهم تحتوي على هذه اللويحات. كما ينوهون أيضًا إلى إخفاق كثيرٍ من التجارب الإكلينيكية للعلاجات المُصمَّمة لإذابة لويحات الأميلويدات، التي لم ينجح أيٌّ منها في إبطاء وتيرة تطوُّر المرض. وفي المقابل، يرد الباحثون المؤيدون للفرضية بأنَّه على الرغم من أن كثافة اللويحات تتفاوت من شخصٍ إلى آخر، فإنَّ كثافة تشابكات تاو التي تنتجها هذه اللويحات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحدة المرض. كما يرون أنَّ إخفاق التجارب الإكلينيكية إنما يُعزَى -على الأرجح- إلى بدء هذه العلاجات في مرحلةٍ متأخرة من تطور المرض.
ولا تعوزُهم الأدلة القوية الخليقة بتعزيز موقفهم هذا. فهناك صورٌ معينة نادرة وعنيفة من مرض ألزهايمر، تنشأ مبكرًا ما بين سن الثلاثين والستين، وتُصاب بها عائلاتٌ بأكملها تقريبًا، وهذه الحالات المرضية تسببها طفراتٌ في الجينات المنظِّمة عملية إنتاج الإميلويدات، ونشوء الالتهابات الدماغية. وهناك أيضًا الكثير من الجينات الأخرى التي ربط العلماء بينها وبين خطر الإصابة بالنوع الأكثر شيوعًا من المرض، الذي ينشأ في مراحل عمرية متأخرة. وقد رُصد أن العديد من هذه الجينات يُرمِّز بروتيناتٍ تُعَدّ من العوامل التي تدخل في عملية ترسيب الأميلويدات، وبعضها يؤثر على عمليات الجهاز المناعي الفطري، وهي مجموعة من الآليات تنشط بسرعة لمنع انتشار المُمْرِضات في الجسم، وتُحفِّز حدوث الالتهابات.
العوامل المسبِّبة للإصابة بالعدوى
عكف الباحثون الذين يطمحون إلى اختبار صحة فرضية العدوى على البحث عن الميكروبات في أدمغة الآلاف من مرضى ألزهايمر بعد وفاتهم، وقد عثروا بالفعل على ميكروبات في كثيرٍ من هذه الأدمغة. غير أنَّ دو ستروبيه يستدرك قائلًا: “لكنَّ هذه الدراسات تكشف فقط علاقات ارتباط يمكن تأويلها على نحوٍ لا علاقة له بآليات المرض”.
تثير هذه الانتقادات حفيظة روث إتخاكي، عالمة الفيزياء البيولوجية بجامعة مانشستر في المملكة المتحدة، التي أفادت في التسعينات بأنَّها قد رصدت النوع الأول من فيروس الهربس البسيط (HSV1) في أدمغة مرضى ألزهايمر بعد وفاتهم1. وترى إتخاكي أنَّ وجود الميكروبات داخل الدماغ يدل بالضرورة على أنَّ لها دورًا ما، وتعتقد -ضمن آخرين- بأنَّ ثمة أدلةً مقنعة على أنَّ الفيروسات تؤدي دورًا محوريًّا في الإصابة بمرض ألزهايمر. وتضيف قائلة: “لطالما أقرَّ أغلبنا بما للأميلويدات من دورٍ مهم في تطور مرض ألزهايمر، لكنَّها ليست العمل المسبِّب لنشوء المرض”.
وقد طُرِحَت أنواع عدَّة من الميكروبات بوصفها مُسبِّباتٍ للمرض، من بينها ثلاثة أنواع من فيروسات الهربس البشرية، وثلاثة أنواعٍ من البكتيريا، وهي “المتدثرة الرئوية” Chlamydia pneumoniae، التي تصيب الرئتين بالعدوى، و”البوريليا البرغدورفيرية” Borrelia burgdorferi، المسببة لمرض “لايم” Lyme، وآخرها بكتيريا “وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية” Porphyromonas gingivalis، المسببة لأمراض اللثة. ويمكن القول إن أيًّا من العوامل المُعدية، متى كان قادرًا على غزو الدماغ، يمكنه -نظريًّا- أن يؤدي هذا الدور التحفيزي في نشوء المرض (ومع ذلك، لا توجد أدلة كافية على تمتُّع فيروس “سارس-كوف-2” SARS-CoV-2، المُسبِّب لمرض “كوفيد-19″، بهذه القدرة).
والملاحَظ أن غالبية المجموعات العاملة في هذا المجال لديها ميكروبٌ واحد، تميل إلى اعتباره المسبِّب لمرض ألزهايمر. وقد نُشرت ورقتان بحثيتان مثيرتان للانتباه في عام 2018، تناولتا دور فيروسات الهربس في نشوئه. أعدَّت إحدى هاتين الورقتين مجموعة الباحث جول دادلي، في كلية طب آيكان بمستشفى ماونت سايناي، الواقعة في مدينة نيويورك. تتناول هذه الورقة بالتحليل كمياتٍ ضخمة من بيانات الجينات والبروتينات، وبِنى الأنسجة المتاحة في قواعد بيانات مختلفة، استُخلِصَت من قرابة ألفٍ من أدمغة المتوفِّين. وقد بحث الفريق في تلك الورقة عن أيّ شواهد على وجود فيروساتٍ في أنسجة الدماغ، كأجزاء الجينات الخاصة بفيروسات الهربس، أو بروتيناتها، مثلًا. وخلصوا إلى أنَّ مرضى ألزهايمر كانت لديهم مستوياتٌ أعلى من فيروسي الهربس البشريين من نوع “6 إيه” (HHV-6A)، ومن النوع السابع، مقارنةً بالمجموعة الضابطة2.
وفي مقابل ذلك، أخفق باحثون آخرون في التوصل إلى نتائج دادلي نفسها3. من هؤلاء عالِم الفيروسات ستيفن جايكوبسون، الذي يعمل في المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية في مدينة بيثيسدا بولاية ميريلاند، الذي عكف فريقه على دراسة عيّنة قوامها أكثر من ألفٍ من أدمغة المتوفين.
وعلى الرغم من ضخامة عدد الأدمغة التي شملتها دراسة دادلي، لم تكشف النتائج التي توصَّل إليها فريقه سوى عن علاقات ارتباط. وإضافة إلى ذلك، فإنَّ مصدر بياناتها يثير الشكوك، حسبما يرى مايكل هينيكا، الباحث في المركز الألماني لأبحاث الأمراض العصبية التنكسية بمدينة بون الألمانية؛ حيث إنّ أدمغة مصابي ألزهايمر تصل إلى حالة متدهورة قبل الوفاة، وتتعرض الأنسجة لمزيدٍ من التحلل قبل التشريح، ولذا، فإنَّ الميكروبات قد تتخللها بسهولة في الأيام الأخيرة من حياة المريض، أو عقب وفاته. ويُعلِّق هينيكا على ذلك قائلًا: “لا يمكننا طرح كثيرٍ من الافتراضات بشأن نشأة مرضٍ يستغرق تطوره ثلاثة عقودٍ تقريبًا بالاعتماد على مواد مأخوذة من الجسم بعد الوفاة”.
وقد نُشِرَت دراسة دادلي هذه في أعقاب دراسةٍ تايوانية أخرى، استغرق العمل عليها عشر سنوات، تابَع خلالها الباحثون أكثر من 8 آلاف شخص، تَبَيَّن أنهم مصابون بفيروس الهربس البسيط، وعقدوا مقارنةً بينهم وبين مجموعةٍ ضابطة مؤلَّفة من 25 ألف شخصٍ غير مصابين بالفيروس. وتَبيَّن أنَّ أفراد مجموعة المصابين بالهربس يزيد خطر إصابتهم بمرض ألزهايمر بمرتين ونصف المرّة، مقارنةً بالمجموعة الضابطة، غير أنَّ هذه الزيادة تلاشت تقريبًا لدى مَن تلقّوا علاجًا دوائيًّا مكثفًا4.
وحتى قبل الرواج الذي شهدَتْه نظرية العدوى في الآونة الأخيرة، كانت احتمالية تسبُّب العدوى في نشوء مرض ألزهايمر تُصادِف هوًى في أوساط الباحثين، إلى الحد الذي دفعهم إلى إطلاق تجربة إكلينيكية لدراستها. ففي عام 2017، شرع فريقٌ بحثيّ في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك في اختبار قدرة عقار “فاليسيكلوفيرvalacyclovir المضاد للفيروسات، على إبطاء وتيرة تدهور الوظائف الإدراكية، وتَكَوُّن لويحات الأميلويدات، وذلك في حالة الإصابات الطفيفة بمرض ألزهايمر، بالفحص أيضًا أنَّ لدى أصحابها أجسامًا مضادة لفيروس الهربس البسيطومن المتوقع ظهور نتائج تلك الدراسة في عام 2020.
عبء الإثبات
عندما لا تكشف الدراسات المُجراة على البشر سوى علاقات ارتباط، غالبًا ما يتجه الباحثون إلى إجراء التجارب على الحيوانات، بحثًا عن مسبِّبات الأمراض، غير أنَّ النماذج الحيوانية لمرض ألزهايمر ليست مثالية، فالفئران -على سبيل المثال- لا تتكون لديها اللويحات المُميِّزة للمرض مع تَقدُّمها في السن، ما لم يتم تعديلها جينيًّا لإنتاجها، كما في حالة نموذج الفأر المهجَّن جينيًّا 5xFAD، المُستخدَم على نطاقٍ واسع، إذ تظهر لديه خمس طفراتٍ مرتبطة بالمرض في الجينات التي تُرمِّز البروتين المُكوِّن لببتيدات “الأميلويد-بيتا”، وتُرمِّز كذلك أحد الإنزيمات التي تُقطِّعه إلى تلك الببتيدات. وتبلغ القدرة على التعبير عن تلك الجينات لدى هذه الفئران مستوياتٍ فائقة، وتبدأ في تكوين اللويحات حين تبلغ من العمر شهرين فقط.
وقد استعان بنموذجَ الفأر هذا رودولف تانزي، اختصاصي علم جينات الجهاز العصبي، ومعه زملاؤه في مستشفى ماساتشوستس العام بمدينة تشارلزتاون الأمريكية، وذلك لدراسة فكرةٍ مستبعَدة خطرت لهم في ظهيرة أحد أيام الجمعة من عام 2008، أثناء تنظيم القسم فعاليةً مُعتادة، تُعرف باسم “ساعة الجعّة”، التي تُعرف في أوساط أعضاء هيئة التدريس والطلاب في المستشفى أيضًا باسم “ساعة تعديل المواقف”.
كان تانزي يبحث عن الجينات التي تزيد فرص الإصابة بمرض ألزهايمر في بعضٍ من البيانات الجديدة الخاصة بالجينومات البشرية، حين رصد جينًا يُرمِّز بروتين CD33، الذي يُعبَّر عنه بدرجةٍ كبيرة في الجهاز المناعي الفطري. وعندئذٍ، أصابته الحيرة، وما كان منه إلا أن تَوَجَّه إلى صديقه وزميله، عالِم الأعصاب روب موير، ليسأله عن رأيه في تلك الفكرة الغريبة القائلة إنّ الجهاز المناعي الفطري في استطاعته إنتاج جينٍ يُحتمل أن يكون مسؤولًا عن مرض ألزهايمر.
كان موير حينئذٍ منشغلًا بمطالعة أحدث التطورات في أدبيات علوم الحياة العامة، وصادف ورقةً بحثية تتناول الببتيدات المضادة للميكروبات، التي توجد في كثيرٍ من مسارات تأشير المناعة الفطرية، فنادى زميله تانزي، قائلًا: “ألقِ نظرةً هُنا يا صديقي”، وإذا بِشاشة حاسوبه تعرِض جدولًا يصف الببتيدات، التي كانت جميعًا في الطول نفسه لببتيدات “أميلويد-بيتا”، وتشبهها في بعض خواصها. وعندما سأله موير: “أتظن أنَّ ببتيدات أميلويد-بيتا يمكن أن تكون ببتيداتٍ مضادة للميكروبات؟”، سرعان ما أجابه تانزي بلا تردد: “دعنا نختبر هذه الفرضية!”.
ولم يكن ليتخلى عنها اعتنق موير تلك الفكرة المستبعَدة. وعنه يقول تانزي متذكرًا: “كان شديد التعلق بها، ولم يكن ليتخلى عنها قط”.
في تلك المرحلة، لم يتوقَّف أحدٌ كثيرًا أمام إمكانية أن يكون لتالمعروفة المضادة للميكروبات.لك الببتيدات دورٌ محدد خاص بها، رغم كونها من العناصر التي احتفظت بها نسبةٌ كبيرة من أنواع الكائنات الحية المختلفة عبر تطورها، وهو ما يُعَد مؤشرًا قويًّا على أنَّ لها فائدةً بيولوجية، فعُمْر تسلسل هذه الببتيدات لا يقلُّ عن 400 مليون عام، ويوجد لدى حوالي ثلثي الفقاريات. ومن هنا، افترض الفريق أنَّها ربما ليست مجرد عنصرٍ خبيث، بل قد تكون لها وظيفةٌ نافعة، تتمثل في محاصرة الميكروبات التي تصل إلى الدماغ البشري، ومَنْعها من التسبب في إصابته بالأمراض. إنَّ منظومة كهذه خليقة بأنْ تختل مع تقدُّم عمْر الدماغ، وفقدانه القدرة على التخلص بكفاءة من الأميلويدات.وهكذا، طلب تانزي، الذي كان قد تخصَّص في علم البيولوجيا المجهرية، من إحدى طالباته في مرحلة الدراسات العليا، وتُدعى ستيفاني سوشا، أن تدرس سريعًا ما إذا كانت ببتيدات “أميلويد-بيتا” تستطيع القضاء على ثمانية كائناتٍ دقيقة من مسبِّبات الأمراض الشائعة في أنبوب اختبار، من بينها بكتيريا “المكورة الرئوية” Streptococcus pneumoniae، وبكتيريا “الإشريكية القولونية” Escherichia coli، أم لا. واكتشفت سوشا أنَّ الببتيدات بإمكانها فعل ذلك، على الأقل بالمستوى نفسه لفعالية الببتيدات المعروفة المضادة نفسه لفعالية الببتيدات المعروفة المضادة للميكروبات.
كيف يمكن للميكروبات أن تتسبب وسارع الفريق بنشر ذلك الاكتشاف5 في عام 2010، وقاد موير على مدار السنوات التالية سلسلةً من التجارب الأكثر تعمقًا، لدراسة ما صاروا يُطْلِقون عليه فرضية الحماية المضادة للميكروبات، فحقنوا أدمغة فئران النموذج 5xFAD، المكونة للويحات مباشرةً ببكتيريا “السلمونيلا المعوية” Salmonella typhimurium، ووجدوا أنَّ الفئران قد صمدت لمدةٍ أطول من الفئران غير المُهجَّنة جينيًّا، التي لا تُكوِّن أدمغتها اللويحات. وتوصلوا أيضًا إلى نتائج مشابهة في حالة الديدان الأسطوانية، باستخدام فطريات “المبيضة البيضاء” المسببة للأمراض (من نوع Candida albicans). وفي كلتا الحالتين، كوَّنت الأميلويدات شبكاتٍ لزجة، أحدقَتْ بمسببات الأمراض وحَيَّدتها6 (انظر: “كيف يمكن للميكروبات أن تتسبب في نشوء اللويحات”).
حوَّل الفريق اهتمامه بعد ذلك صوب فيروسات الهربس، التي عدَّها الباحثون أكثر مسبِّبات الأمراض ارتباطًا بمرض ألزهايمر، فحقنوا أدمغة فئرانٍ صغيرة السن من فئران النموذج 5xFAD بالنوع الأول من فيروس الهربس البسيط، وكرَّروا الأمر ذاته مع أدمغة فئرانٍ طبيعية. وفي غضون ثلاثة أسابيع، انتشرت لويحات الأميلويدات في أدمغة الفئران المُهجَّنة جينيًّا. وعندما كرر الفريق التجربة مستخدِمًا جرعةً قاتلة من الفيروس، عاشت تلك الفئران لمدةٍ أطول من فئران مجموعة الضابطة، وظهرت اللويحات في أدمغتها خلال فترةٍ قصيرة إلى حدٍّ مذهل، لا تزيد على يومين فقط. ويقول تانزي عن ذلك: “لقد كان أمرًا مُدهِشًا”.
يُذكر أنَّ هذا النوع من فيروس الهربس واسعُ الانتشار إلى حدِّ أنَّ أكثر من نصف سكان العالم يحملونه في أجسامهم، لكنَّ موير أراد أيضًا أن يختبر آثار فيروس الهربس البشري من النوع السادس (HHV-6)، الذي تحمله نسبةٌ تصل إلى 10% من الأدمغة السليمة، وإنْ كان يوجد فيها في الغالب بمستوياتٍ منخفضة، وتكون له تأثيراتٌ لم يتسنَّ الوقوف عليها. ولأنَّ الفئران تتمتع بمناعة ضد الإصابة بهذا الفيروس، درس الفريق تأثيراته على مزرعةٍ ثلاثية الأبعاد من الخلايا العصبية البشرية، تحاكي بعض جوانب مرض ألزهايمر.
عادةً ما تبدأ مثل هذه العضيات الدماغية المُستَزرَعة المُصغَّرة في مراكمة لويحات الأميلويدات، وحزم “تشابكات تاو” بعد ستة أسابيع من وجودها في المزرعة، ولكنْ -مثلما لاحظ الباحثون في حالة الفئران- ظهرت اللويحات بعد يومين فقط من إضافة الفيروس7.
ومضى موير وتانزي في دراسة تأثيرات فيروسات الهربس على تكوُّن حِزَم “تشابكات تاو” في العضيَّات، وما إذا كان بإمكان تلك التشابكات أن تمنع انتشار الفيروسات عبر الخلايا العصبية، أم لا، إلى أنْ وافت المنية موير في شهر ديسمبر من عام 2019، إثر تعرُّضه لأزمةٍ صحية لم تدُم طويلًا، غير أنَّ تانزي أوضح أنَّ مجموعته ماضية في إجراء تلك الأبحاث.
ويشير تانزي إلى أنَّ الخلاصة النهائية لتجاربه التي أجراها لإثبات الفكرة حتى الآن هي أنَّه “إذا كان دماغ الإنسان معرَّضًا لتكوين ببتيدات “أميلويد-بيتا”، فسوف يصمد بشكلٍ أفضل أمام العدوى”. لكنّه يقرّ، في المقابل، بأنَّ طريقًا طويلًا ما زال يفصلهم عن التوصُّل إلى أي دليلٍ فعلي؛ كأنْ يرصدوا، مثلًا، عدوى ما وهي تُحفِّز عملية ترسُّب الأميلويدات لتُسبِّب الإصابة بمرض ألزهايمر. ويضيف قائلًا: “لم نتوصل بعدُ إلى الدليل القاطع”. وتابع تانزي موضحًا أنَّ أحدًا لا يعرف حتى الآن ما إذا كانت الخصائص المضادة للميكروبات لدى ببتيدات “أميلويد- بيتا” تُستخدم فعليًّا في إطار عمليةٍ فسيولوجية طبيعية في أجسام البشر، أم لا، وأنَّنا نجهل حجم الدور الذي تلعبه وسط ترسانة الآليات الدفاعية العامة في الدماغ. وقد لا تعدو العدوى كونها عاملًا محفزًا للإصابة بمرض ألزهايمر، أقرب إلى احتكاك عود الثقاب الذي يؤدي إلى اندلاع اللهب، كما هو الحال في الطفرات الجينية النادرة.
بأنَّها شكلٌ من أشكال التنقيب الأثري. وانطلاقًا من إدراك مختبر تانزي لاحتمال خلوِّ جسم المريض عند وفاته من ذلك العامل الغامض الذي يحفز نشوء المرض، أيًّا ما كانت ماهيته، يعكف باحثوه حاليًّا على تطوير تقنياتٍ تهدف إلى عزل اللويحات، بحيث تكون منفصلةً عن بعضها، ثم تحليلها، بحثًا عن أي بقايا للميكروبات عالقة بها. ويصف تانزي هذه العملية بأنَّها شكلٌ من أشكال التنقيب الأثري.
دراساتٌ مُسانِدة
لم يسعَ أي باحثٍ من خارج فريق تانزي حتى الآن إلى تكرار تجاربه البحثية، ليرى إذا كان سيصل إلى النتائج نفسها، أم لا، لكنْ هناك تجارب أخرى وفّرت أدلةً ظرفية داعمة لفرضية الحماية المضادة للميكروبات، فعلى سبيل المثال، أثبت العلماء في شركة التكنولوجية الحيوية “جينينتك” Genentech، الواقعة في مدينة ساوث سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، أنَّ هناك طفرةً ترتبط بتراجع خطر الإصابة بمرض ألزهايمر8، توجد في جين PILRA، الذي يجري التعبير عن بروتيناته في كثيرٍ من الخلايا المناعية. يُنتِج هذا الجين بروتينًا يساعد فيروسات الهربس وغيرها على النفاذ إلى داخل الخلايا العصبية، ويعتقد الباحثون أنَّ هذه الطفرة ربما تصدُّ هذه الفيروسات، وتَحُول دون دخولها.
والأدعَى إلى إثارة الاهتمام أن ورقة بحثية9 نُشرت خلال هذا العام، أعدَّها مختبر عالِم البيولوجيا الكيميائية يو-مينج لي، المُلحَق بجامعة كورنيل في مدينة نيويورك، أزاحت الستار عن آلية ربما تربط الالتهابات العصبية بإنتاج ببتيدات “أميلويد-بيتا”. فقد وجد فريق لي أنَّ هناك بروتينًا يحمل اسم IFITM3، ينشط عند وصول الفيروسات إلى الدماغ، ويرتبط بواحدٍ من الإنزيمات المنتِجة للأميلويدات، يُسمى “جاما-سيكريتاز” γ-secretase؛ فيزيد من إنتاجها.
فحص يو-مينج وفريقه عيناتٍ مأخوذة من بنوك الأدمغة، ووجدوا أنَّ مستويات التعبير الجيني في جين IFITM3 تتزايد مع التقدم في العمر. ورُصد ارتفاعها في أدمغة مرضى ألزهايمر، مقارنةً بالمجموعة الضابطة. وفضلًا عن ذلك، اكتشفوا في التجارب التي أجروها على خلايا دماغية مُستَزرَعة أنَّ جزيئًا مُعزِّزًا للالتهابات يزيد من مستويات كل من بروتين IFITM3، وببتيدات “أميلويد-بيتا”، وهو نوعٌ من السيتوكينات يُسمَّى “الإنترفيرون” interferon (ولاحظوا ذلك في عينات الأدمغة البشرية أيضًا؛ فمع ارتفاع مستويات بروتين IFITM3، تزداد مستويات الإنترفيرون). وكل ذلك يشير -حسب ما أورده الفريق- إلى أنَّ هذا البروتين ربما يعمل كوسيطٍ في نشوء الالتهابات، وكذلك في عملية إنتاج الإميلويدات.
ويعكف يو-مينج الآن على دراسة إمكانية استخدام بروتين IFITM3 كمؤشرٍ حيوي يساعد على اختيار المرضى الذين يمكن استقدامهم للمشارَكة في التجارب الإكلينيكية للعلاجات أو العقاقير المضادة للالتهابات، التي تستهدف إنزيم “جاما-سيكريتاز”. كما ينظر الباحث كذلك في إمكانية استهداف هذا البروتين ضمن جهود تطوير العقاقير.
ويصف دو ستروبيه هذه النتائج بأنَّها “خطوةٌ كبيرة إلى الأمام”؛ بالنظر إلى أنها تُنبئ عن ماهية مراحل العمليات المميزة لكثيرٍ من الأمراض المعقدة، ومنها السرطان. وأوضح أنَّ عملية نشوء مرض ألزهايمر “إمَّا أنْ تحفِّزها الطفرات المسببة للنوع الوراثي منه، التي تؤدي إلى إنتاج مزيدٍ من الأميلويدات، ومن ثم تسبِّب الالتهابات، أو تحفِّزها عدوى ما تسبِّب حالةً من الالتهاب، تؤدي بعد ذلك إلى فرط إنتاج الأميلويدات”.
ويرى دو ستروبيه أنَّه لو صح هذا التصور، فربما تترتَّب عليه نتائج مهمة، تتعلق بعلاج مرض ألزهايمر، وذلك لأنَّ تثبيط إنتاج تلك الببتيدات قد يؤدي إلى زيادةٍ مفاجئة في خطر حالات العدوى على الدماغ. ويقول: “لكنَّ هذا الاستنتاج افتراضي تمامًا، ويَعتمِد على مقدار الأهمية التي قد نكتشفها لتلك الببتيدات وسط ترسانة الأساليب الدفاعية العامة للدماغ”.
وجدير بالذكر أنَّ الفكرة القائلة إنّ العدوى تؤدي دورًا كبيرًا في الإصابة بمرض ألزهايمر ما زالَت تحوم حولها شكوك قسمٍ من الباحثين. ومن هؤلاء الباحثين جون هاردي، عالِم الأعصاب بجامعة كوليدج لندن، الذي تَقاسَم مع دو ستروبيه، وباحثين آخرين، جائزة “برين” لأبحاث الدماغ في عام 2018، عن جهودهم البحثية في مجال ألزهايمر. ويقول هاردي إنَّه “على استعداد للرهان بمبلغٍ صغير” على صحة نظرية الحماية المضادة للميكروبات، مستدركًا بقوله: “لكنني لا أعتقد أنَّه سيمكن إثباتها، وأظن أنَّه، فيما عدا الجوانب الجينية المتصلة بمرض ألزهايمر، لم يعد هناك سوى القليل من الجوانب التي تظلُّ بحاجةٍ إلى تفسير”. كما تقول تارا سبايرز-جونز، عالمة الأعصاب في جامعة إدنبره بالمملكة المتحدة، إنَّه بالرغم من أنَّ البيانات المتاحة حتى الآن لا تستبعد إمكانية أن تكون العدوى مسؤولةً عن بعض حالات ألزهايمر، من خلال تحفيز الالتهابات، فلا يبعُد أن يُعزى المرض إلى الشيخوخة الطبيعية كذلك، مشيرةً إلى أنَّ الشيخوخة هي عامل الخطورة الأكبر في الإصابة بالمرض. وقالت: “رأيي الشخصي أنَّ الالتهاب الدماغي الشامل، المصاحب للتقدم في العمر، هو السبب على الأرجح”.
وفي حالة توفُّر النماذج المناسبة، يَعتقِد بعض العلماء أنَّه قد يتسنَّى إثبات نظرية العدوى، حتى مع الأخذ في الحسبان الصعوبة المحتمَلة التي ينطوي عليها تحديد نسبة حالات ألزهايمر التي سببتها الميكروبات. وهذه الاحتمالات الجديدة تثير حماس باحثين، مثل جايكوبسون، الذي يأمل في تطوير نموذجٍ للمرض يَعتمِد على حيوانات قرود القشة، لاختبار صحة نظرية العدوى، على اعتبار أنَّ هذه الرئيسيات الصغيرة تحاكي عملية تطور المرض لدى البشر بدقةٍ أكبر من النماذج الأخرى. كما يعتزم تانزي الاستعانة بنموذجٍ لفأر، قد استُبدلت بجيناته الخاصة بالأميلويدات نظائرها البشرية، بحيث يعبِّر عن ببتيدات “أميلويد-بيتا” البشرية بالمعدلات الفسيولوجية الطبيعية. وهناك خطوةٌ أخرى مهمة، هي أن تَعْمَد مختبراتٌ مستقلة إلى تكرار التجارب، لترى إذا كانت ستتوصل إلى النتائج الحالية نفسها.
أمَّا فيما يخص جائزة نورينز، فقد تَقدَّم أربعون باحثًا حتى الآن بأعمالهم، أملًا في الظفر بالجائزة النقدية حين تُعلَن نتائج المنافَسة في مارس القادم. ولا تخفى جسامة هذه المهمة على نورينز، الذي يصف ذلك الدليل، الذي من شأنه إثبات أنَّ ميكروبًا يتسبب في الإصابة بمرض ألزهايمر، قائلًا إن “العثور على دليلٍ كهذا من أصعب الأمور”.
المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2020/12/d41586-020-03084-9/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%89-%D9%85%D9%8A%D9%83%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A8%D9%85%D8%B1%D8%B6-%D8%A3%D9%84%D8%B2%D9%87%D8%A7%D9%8A%D9%85%D8%B1%D8%9F