هل عشماوي المناعة علامة على طول العمر؟!
“وكما يحكم القاضي بالإعدام على المتهم وينفذه عشماوي، فكذلك الخلايا المناعية تحكم وتقضي ولديها عشماوي”
خلق الإنسان ليموت بعد فترة محددة كُتبت له على الأرض قد تطول أو تقصر. وفي كل يوم بل كل لحظة تموت فينا مختلف الخلايا بطرق مختلفة وتولد خلايا بدل فاقد تنشأ من الخلايا الجذعية بأنواعها سواء تلك المسؤولة عن تجديد خلايا الدم (بكراتها الحمراء والبيضاء) أو الأنسجة الأخرى. وموت الخلايا هذا يحدث بـطرق ثلاث مختلفة نوردها كالتالي:
النوع الأول: الموت المُبرمج يطلق عليهAPOPTOSIS
وهو الذي لابد أن يحدث في وقت محدد للخلية حسب مكانها ووظيفتها وإلا أصبح الجسم كتلة من الخلايا العجوزة دون الشابة، أو كبرت أعضاؤه وتمدد ونما الجسد بلا نهاية. والغريب أن الخلايا السرطانية تعلمت بخبث ومكر السبب وراء هذا الموت المُبرمج ودور الجزيئات والإنزيمات المختلفة في حدوثه، فأنشأت لنفسها نظاماً معاكساً تماماً بحيث تمنع نفسها من الموت المبرمج وتعيش بلا موت ولا يحدث لها شيخوخة طالما يوجد هناك مدد من الغذاء والماء والهواء مُمثلاً في الأوكسيجين. وهنا يكمن أحد أسباب نعت الخلايا السرطانية بالخلايا الخبيثة.
النوع الثاني: موت التضحية المبرمج يطلق عليه AUTOPHAGY
فبدلا من موت الخلية والتخلص منها تلجأ الخلايا في بعض الأنسجة تحت ظروف الجوع وقلة الغذاء إلى الموت لتأكلها الخلايا الأخرى من زميلاتها لتعيش هذه الأخرى. ويسمى هذا النوع من الموت باسم AUTOPHAGY أي التضحية بالنفس من أجل بقاء الغير. العجيب أن الخلايا السرطانية تعلمت هذا النوع من موت التضحية وطورته وطبقته على نفسها بمهارة عالية. فعندما تكبر كتلة الخلايا السرطانية ويضيق بها المكان ويقل المدد من الغذاء تصدر أوامر إلى بعض من خلاياها لتموت ببطء وتبدأ هي في التغذي على محتوياتها من بروتينات وكربوهيدرات ودهون وفيتامينات بعد تحلل الخلية التي ماتت من أجل زميلاتها الخبيثة. وهكذا نرى أنه حتى الخلايا الخبيثة تضحي من أجل زميلاتها. وهنا يكمن أحدد الأسباب الأخرى وراء نعت الخلايا السرطانية بالخلايا الخبيثة.
النوع الثالث: موت المفاجأة ويطلق عليه NECROSIS
وهذا النوع من الموت غير مبرمج في الخلايا والذي يحدث نتيجة صدمات فجائية من سموم أو حرق أو أسباب أخرى، فيتسبب في الموت المفاجئ للخلايا. وهنا يقوم نوع معين من الخلايا المناعية الآكلة (البلعمي) بابتلاع هذه الخلية التي ماتت فجأة ويتم التخلص من نفاياتها فور موتها. وهذا النوع من الموت يحدث للخلايا السرطانية الخبيثة بعد العلاج المناعي أو الإشعاعي والذي يهد عرش هذه الخلايا مرة واحدة فيقضي عليها بسرعة فائقة حتى ولو أخذ في طريقه بعض من الخلايا السليمة والتي تتصف بمعدل سريع من التضاعف مثل الخلايا المناعية وخلايا الدم الحمراء وخلايا الشعر.
ومن المعروف أن هناك علاقة طردية بين معدل موت الخلايا المبرمج وشيخوخة العضو الذي يؤويها وبالتالي شيخوخة الفرد نفسه. فالخلايا التي تتكاثر بصورة دائمة وبسرعة هي الأكثر عرضة للموت المبرمج. ومن أمثلة هذا النوع خلايا الجلد والخلايا المبطنة لغشاء القناة الهضمية وخلايا الدم سواء كانت الحمراء المنوط بها عملية التنفس أو الخلايا البيضاء المناعية المنوط بها الدفاع عن الجسم ضد الميكروبات. وكلما زاد معدل التضاعف الخلوي والموت المبرمج في نسيج ما في الجسم كلما كان هذا النسيج أكثر عرضة للشيخوخة المبكرة والمبرمجة والتي بالطبع تسبق موت الانسان في النهاية. ولذلك فإن الشيخوخة مبرمجة فينا إلا إذا تم التدخل في تعطيل أسبابها فنجعل معدلها بطيئا وهذا ما وصل إليه العلم الحديث في السنوات الماضية وقطع فيه شوطاً معقولا. وكلما كانت البيئة التي يعيش فيها الإنسان مساعدة على تسريع الموت المبرمج للخلايا كلما كانت الخلايا أكثر شيخوخة من أقرانها في الأفراد الذين يعيشون ويتمتعون ببيئة صحية. ولأن انقسام الخلية وتضاعفها يعتمد على DNA فإن أهم العوامل البيولوجية الكامنة في خلايانا والتي تتحكم في معدل الموت المبرمج لها وكذلك شيخوختها هو انزيم يسمي تيلوميريز.TELOMERASE يقوم هذا الإنزيم بتقصير الجزء الطرفي من الحمض النووي DNA الموجود في نواة كل خلية عند كل انقسامها.
ومن أكثر الخلايا التي من الممكن أن يحدث لها شيخوخة هي الخلايا المناعية الغير متخصصة، والتي تتعامل بسرعة فائقة وبقوة هائلة مع الجسم الغريب. يلي ذلك شيخوخة الخلايا المتخصصة والتي تتعامل بتخصصية ومهنية عالية مع الجسم الغريب وتعيش فترة طويلة على هيئة خلايا ذات ذاكرة قادرة على التعامل مع نفس الجسم بقوة وشراسة وبسرعة إذا رأته مرة أخرى. ولذلك فإن هذا الإنزيم نشط جدا في الخلايا المناعية وبالتالي يقصر DNA فيها بسرعة فتتعرض للموت المبرمج بسرعة مما يمثل تحدياً في بقائها حية للدفاع عن الجسم ضد غزو الأعداء. وليس هناك مشكلة أبدا في نشاط هذا الإنزيم في الخلايا المناعية الغير متخصصة لأن فترة بقائها حية في الجسم قصيرة تتراوح من ٦-٤٨ ساعة فتموت ويتكون بدل فاقد لها من الخلايا الجذعية الموجودة في نخاع العظم. ولحسن الحظ، نجد أن الخلايا الجذعية أو التي نسميها الخلايا الأم (الناشئة) هذه يقل فيها نشاط هذا الإنزيم جدا ليبقى طول ال DNA ثابتاً فلا تشيخ الخلايا. وكذلك فإن هذا الإنزيم لا يعمل بكفاءة عالية في الخلايا المناعية المتخصصة صاحبة الذاكرة والتي خرجت من المعركة المناعية مع العدو سليمة وقد اكتسبت الذاكرة المناعية فتبقي حية تتجول في الجسم لسنوات طوال.
والعجيب أن الخلايا السرطانية تعلمت من الخلايا الجذعية بخبثها الشديد أهمية هذا الإنزيم في الموت الخلوي المبرمج فقامت بتعطيل دوره فيها حتى لا تتعرض للموت المبرمج وبالتالي إلى الشيخوخة فتبقى حية أبد الدهر طالما حصلت على المدد من الغذاء والهواء. ولذلك فإن الخلايا السرطانية لا تموت إلا إذا مات الإنسان الذي يكفلها أو إذا تعرضت للموت المفاجئ جراء العلاجات الكيماوية أو الإشعاعية. وشيخوخة الجسد ترتبط أيضاً بانخفاض كبير في العديد من وظائف الجهاز المناعي بصورة تدريجية مع تقدم العمر، وهي الظاهرة التي تُعرف باسم شيخوخة المناعة، وتؤدي هذه الظاهرة إلى زيادة خطر الإصابة بالعدوى والسرطان وأمراض المناعة الذاتية. وقد اتفق العلماء على أن انخفاض مستوى الالتهاب في سن الشيخوخة القصوى هو أفضل مؤشر للشيخوخة الصحية، مما يشير إلى أهمية الحفاظ على الجهاز المناعي في سن الشيخوخة من خلال البعد عن مسببات الالتهابات المزمنة.
وتظهر التغيرات المناعية المرتبطة بالعمر في عضوين من الأعضاء المناعية وهما الغدة الصعترية (التوتية الموجودة فوق القلب) ونخاع العظام. وهذه الأنسجة هي المسؤولة عن تكوين وتطور الخلايا الليمفاوية الناضجة وتخصصها. وقد وجد أن الخلايا الجذعية المكونة للدم في النخاع العظمي للمسنين تميل إلى التميز أكثر إلى الخلايا المناعية الغير متخصصة مما يؤدي إلى خلل في تعداد خلايا الدم المتخصصة. وبدراسة التغيرات المرتبطة بالعمر في خلايا دم المتبرعين الأصحاء في مجموعة واسعة من الفئات العمرية تبين أن أعداد الخلايا اللمفاوية تتغير ديناميكيًا مع تقدم العمر. فعلى سبيل المثال، وجد ان أعداد الخلايا التائية والبائية التي تم تكوينها حديثاً في الدم تنقص مع تقدم العمر، في حين تزداد أعداد خلايا الخلايا المناعية ذات الذاكرة أي التي تعاملت مسبقاً مع عدو خارجي. والمتوقع من ذلك نقصان في قدرات الجهاز المناعي في التعامل مع مزيد من مسببات الأمراض نتيجة لشيخوخة الخلايا المناعية. ولكن ماذا عن الخلايا المناعية لدى الأفراد المعمرين الأصحاء، هل لديهم نفس النمط من الخلل في نسب الخلايا المناعية الشابة والعجوزة أم هناك بصمة مناعية أخرى تميز هؤلاء الأفراد والتي من الممكن أن تكون وراء قوة تحميهم بعد عمر المائة.
والمعمرون (Supercentenarians) هم مجموعة فريدة من الناس نادرة للغاية. على سبيل المثال يقدر علماء السكان في كندا أن فرصة العيش لأكثر من 110 عامًا هي أقل من 1 لكل مائة ألف. أما في اليابان في عام 2015، وهناك أكثر من واحد وستين ألف شخص يزيد عمرهم عن 100 عام، وفقط 146 شخصًا فوق سن 110. وقد أظهرت الدراسات أن هؤلاء الأفراد كانوا يتمتعون بمقاومة عالية للأمراض المميتة مثل السرطان والسكتة الدماغية وأمراض القلب والأوعية الدموية خلال حياتهم كلها. وأدّت هذه الملاحظة إلى فكرة أنه قد يكون لديهم نظام مناعة قوي بشكل خاص. ولمعرفة الأسباب وراء هذه المناعة لدى هؤلاء المعمرين، استخدم علماء من مركز RIKEN للعلوم الطبية التكاملية (IMS) وكلية الطب بجامعة كيو في اليابان تحليل الحمض النووي RNA على مستوى الخلية الواحدة حيث وُجد أن كبار السن المعمرين (فوق سن 110) Supercentenarians لديهم عدد أكثر من نوع محدد من الخلايا المناعية يسمى خلايا CD4 القاتلة.
للإجابة على هذا السؤال، أجري بحث قام فيه العلماء بتجميع الخلايا المناعية الدوارة بالدم من مجموعتين من المتطوعين الصغار والمعمرين. وقد تم دراسة عدد 41,208 خلية من المعمرين والذين تزيد أعمارهم عن 100 عام (ما متوسطه 5,887 لكل فرد) تم تجميعهم من سبعة مقاطعات مختلفة من اليابان. وبالتوازي تم تجميع 19,994 خلية من المجموعة الأصغر سناً (بمعدل 3,999 لكل فرد) تم تجميعهم من خمس مقاطعات مختلفة تتراوح أعمارهم بين الخمسينيات إلى الثمانينات. وقد وجد الفريق البحثي أنه في حين أن عدد الخلايا البائية كان أقل في المعمرين، فإن عدد الخلايا التائية كان هو نفسه تقريبًا في كلا من المعمرين والمجموعة الضابطة (الشابة)، ولكن لوحظ أن المعمرين لديهم مستوى عال جدًا من الخلايا المناعية التائية التي تصل أحيانًا إلى 80 بالمائة من جميع الخلايا التائية بالدم مقارنة بـ 10 أو 20 بالمائة فقط في المجموعة الأخرى. وبتحليل هذه الخلايا وجد أنها من نوع الخلايا القاتل (عشماوي) مما يعني أن لها القدرة على قتل الخلايا الأخرى.
ومن المعروف أن الخلايا المناعية نوعان، أحدهما يحمل العلامة CD4 والآخر يحمل العلامة CD8 على سطحها. وعادةً ما تكون الخلايا التائية التي تحمل علامات CD8 هي التي تقتل العدو الغريب ولو كان مختبئاً في الخلية بعد أن يغزو الجسم وذلك من خلال إطلاق حبيبات صغيرة من الأنزيمات تسمى برفورين Perforin وغرانزيم Granzyme تسبب موت الخلية المستهدفة لأن لها قدرة عالية على اختراق وتحليل الغشاء الخلوي . أما تلك التي تحمل علامة CD4 فليس لديها القدرة على قتل الخلايا المريضة ولكنها تقدم يد المساعدة للخلايا القاتلة وغيرها من خلال إفراز مجموعة من البروتينات اللازمة لنمو الخلايا. ولذلك اعتقد الباحثون في بادئ الأمر أن زيادة أعداد الخلايا التي تحمل صفات القتل هذه ربما يكون نتيجة لزيادة الخلايا الحاملة للـعلامات CD8 لأنها هي المنوط بها عملية قتل الجسم الغريب أو الخلية المصابة .
لكن الغريب تبين أن الأمر ليس كذلك. فقد وجد أن الخلايا CD4 في المعمرين هي التي ازدادت أعدادها وهي التي اكتسبت صفات الخلايا القاتلة (عشماوي جديد) والقدرة على إطلاق أنزيمات برفورين Perforin وغرانزيمGranzyme . ومن المثير للاهتمام، عندما نظر الباحثون في دم المتبرعين الشباب، كان هناك عدد قليل نسبيا من الخلايا القاتلة لهذا النوع من الخلايا التي تحمل العلاماتCD4 ، مما يشير إلى أن هذا لم يكن علامة على الشباب بل هو سمة خاصة للمعمرين. وللنظر في كيفية إنتاج هذه الخلايا الخاصة، قام الفريق بفحص خلايا الدم من المعمرين بالتفصيل، ووجد أنها نشأت من نفس النسل، مما يعني أن هذه الخلايا الغريبة نشأت من سلف واحد في الأصل.
وقد أشار كوسوكي هاشيموتو مؤلف أول لهذا البحث ويعمل كباحث في معهد IMS باليابان “لقد كنا مهتمين بشكل خاص بدراسة هذه المجموعة المعمّرة من الناس، لأننا نعتبرهم نموذجًا جيدًا للشيخوخة بلا أمراض، وهذا أمر مهم في مجتمعات مثل اليابان حيث لوحظ في العقود الماضية أن معدل الشيخوخة يسير بسرعة عكس ما كان في العقود السابقة”. وأضاف نائب مدير معهد IMS ، بييرو كارنشي ، أحد قادة المجموعات، “نتائج هذا البحث يمكن أن تساعدنا على فهم لماذا هناك بعض الأفراد هم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. هذا مثير لأن البحث قدم لنا رؤى جديدة حول كيفية تمكن الأشخاص الذين يعيشون حياة طويلة جدًا من حماية أنفسهم من حالات مثل الالتهابات والسرطان”
تعمل الخلايا التائية من نوع CD4 (المساعدة) بشكل عام عن طريق توليد السيتوكينات (وهي مجموعة من البروتينات المهمة) التي تمد يد المساعدة إلى الخلايا المناعية الأخرى ومنها الخلايا القاتلة. في حين أن الخلايا CD8 تقوم بوظيفة القتل (عشماوي المناعة). ولذلك فقد يكون الجمع بين هاتين الميزتين في المعمرين في خلية واحدة يسمح لهم بأن يكونوا بصحة جيدة بشكل خاص. نحن نعتقد أن هذا النوع من الخلايا، غير المألوف نسبيًا في معظم الأفراد، حتى الشباب، مفيد في مكافحة الأورام أولا بأول، وقد يكون مهمًا للمراقبة المناعية.
وهكذا يبين لنا العلم أن وراء كل شيء سبب ولو جهلناه في حينه. فتمتع المعمرين بصحة جيدة رغم شيخوختهم وراءه سبب وهو وجود هذا النوع من الخلايا الذي اكتسب صفات جديدة لم تكن تتمتع بها، صفات تمكنها من قتل أعداء الجسم كما تفعل الخلايا القاتلة (عشماوي المناعة الأساسي). وهكذا أصبح في المعمرين عشماوي أساسي وعشماوي جديد لتزيد القوة في قتل الأعداء. وهنا يكمن السبب، وإذا عُرف السبب بطل العجب. وما زال ما خفي من العلم أكثر مما علمناه.