الدراسات الإكلينيكية الافتراضية تعطي دَفعةً لتجارب الأدوية
الأزمة الصحية العالمية تقود صناعة تطوير الأدوية نحو نهجٍ “طبيعي جديد”، يعتمد على الدراسات الإكلينيكية الافتراضية.
كان جوناثان كوتليار على عِلمٍ بأنه سيكون في طليعة المنضمِّين إلى مجالٍ جديدٍ حين التحق -قبل أربعة أعوام- بشركة “ساينس 37” Science 37، وهي شركة متخصصة في إجراء التجارب الإكلينيكية الافتراضية، التي تُجرَى عبر الإنترنت في أكثر الأحيان. ظلَّت الشركة -التي تتخذ من مدينة لوس أنجيليس بولاية كاليفورنيا مقرًا لها- تنمو ببطء قبل حلول شهر مارس الماضي؛ إذ لم تكن تتلقَّى من العملاء المحتمَلين سوى بضع مكالماتٍ أسبوعيًّا، ولكنْ منذ ظهور جائحة “كوفيد-19″، أخذت الشركة تخطو خطواتٍ متسارعة، وتتقدّم بوتيرةٍ محمومة.
يقول كوتليار -الذي يشغل منصب كبير المسؤولين الطبيين في الشركة- إنها تتلقّى حاليًّا مئات الاستفسارات أسبوعيًّا من عملاء محتملين، على غرار شركات الأدوية، والمراكز الطبّية، وحتّى بعض الباحثين. وبالنظر إلى أن المستشفيات باتت تُشكِّل بؤرًا لتفشِّي فيروس كورونا الجديد، المسبِّب لمرض “كوفيد-19” حول العالم، فقد أصبح المشاركون في التجارب الإكلينيكية عازفين عن حضور المواعيد الروتينية للفحص والمتابعة من جهة، ومن جهة أخرى، صار العاملون في مجال الرعاية الصحية منخرطين في مهام عديدة، بما يتجاوز حدود قدراتهم. ونتيجةً لذلك، وجد الباحثون أنفسهم بين خيارين: إما تعليق العديد من التجارب الإكلينيكية، أو التحوُّل إلى نموذج التجارب الافتراضية، الذي يقوم على إجراء الاستشارات عبر الإنترنت، مع جمع أكبر قدر ممكن من المستندات الورقية والبيانات عن بُعد.
وهكذا، فقد تُعجِّل الجائحة بحدوث تغيير على صعيد التجارب الإكلينيكية، وهو التغيير الذي كان ينشده كوتليار وشركة “ساينس 37” على أيّة حال. وثمة تأثيرات ممتدة أخرى قد يشهدها مجال تطوير الأدوية؛ فالشركات التي عادةً ما ينافس بعضها بعضًا، نجدها اليوم تتعاون فيما بينها، والكثير منها يسعى إلى تعزيز سلاسل الإمداد لديه، من أجل مواجهة الاضطراب الواقع في هذا الشأن. ويقول بعض الباحثين والشركات في مجال تطوير الأدوية إن تلك المنظومة قد لا تعود أبدًا إلى ما كانت عليه.
ويرى كينيث كايتين -مدير مركز تافتس لدراسات تطوير الأدوية في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية -أن الجائحة قد طالت هذه الصناعة بكافة جوانبها تقريبًا، إذ يقول: “لقد قلبَتْ الجائحة عملية تطوير الأدوية بأسرها رأسًا على عقب؛ حيث لم يَعُد للمجتمع البحثي بأكمله مِن همٍّ سوى تطوير علاجات لمرض كوفيد-19”.
من المرجَّح أن يكون بعض هذه التغييرات مؤقَّتًا، وفقًا لتوقعات كايتين. فقد رأينا كيف هرعت الجهات الرقابية على الأدوية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان إلى الموافقة على إخضاع العلاجات للتجارب الإكلينيكية، والسماح باستخدام أدوية موجودة بالفعل لأغراضٍ جديدة، في إطار السعي إلى محاربة مرض “كوفيد-19″، دون أن تتطلَّب كل تلك البيانات والوثائق التي كانت تتطلبها في المعتاد. وأكبر الظن أن هذه التغييرات سوف تنقضي بانقضاء الجائحة. ومن بين القائلين بهذا الرأي إستر كروفاه، المديرة التنفيذية لمركز الأبحاث “فاستر كيورز” FasterCures، الذي يقع مقرُّه في واشنطن العاصمة، إذ تقول: “إن المرونة التي أُضْفِيَتْ على مجال تطوير التجارب الإكلينيكية إنما تحققت مدفوعةً بإعلان حالة الطوارئ الصحية العامة، وهي -بالنسبة لي- أقربُ إلى عمليةٍ طارئة منها إلى أي شيء آخر”.
تحوُّلات في مسار التجارب
وقد تدفع الجائحة إلى حدوث تغييرات دائمة على أصعدةٍ أخرى.. فثقافة التعاون التي تجلَّت إبَّان هذه الجائحة فيما بين الحكومة، والصناعة، والأوساط الأكاديمية، هي ما يمكن أن يبقى طويلًا، على حدِّ قول كروفاه. وتضيف قائلة: “إننا نشهَد المتنافسين التقليديين يتعاونون فيما بينهم اليوم بطُرُق جديدة”. ومما تجدُر الإشارة إليه في هذا الصدد أنَّ تحالفًا يضمُّ أكثر من عشر شركات أدوية يعكف على اكتشاف علاجات مضادة للفيروسات، واختبارها، من خلال تبادل البيانات حول النتائج المبكرة، وكذا الأبحاث العلمية الأساسية ذات الصلة، فضلًا عن التعاون على صعيد تصميم التجارب الإكلينيكية. ومن بين الشركات التي يضمُّها هذا التحالف، شركة “جيلياد” Gilead في مدينة فوستر سيتي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وشركة “نوفارتس” Novartis في مدينة بازل السويسرية، وشركة “ووشي آب تك” WuXi AppTec في مدينة شنجهاي الصينية. وتقول كروفاه إنه إذا كان لهذه المساعي الجماعية أن تؤتي ثمارها المرجوَّة، فلربما تستمر.
أمَّا ديفيد سيمشي-ليفي، الذي يدرس إدارة العمليات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمدينة كامبريدج الأمريكية، فيرى أن شركات الأدوية قد تُخضِع سلاسل الإمداد الخاصّة بها أيضًا لتعديلات ممتدة الأثر. فعلى مدى عقود، أخذ صانعو الأدوية يحرِّكون دفّة صناعتهم بعيدًا عن الولايات المتَّحدة وأوروبا، مُتَّجهين صوب بلدانٍ معينة، مثل الهند، والصين، حيث يتسنَّى لهم خفض تكلفة إنتاج الأدوية، بيد أنَّ هناك شركاتٍ عديدة شرعت -على مدار السنوات القليلة الماضية- في البحث عن سبلٍ لتنويع إمداداتها من الخدمات والمواد الخام، حسبما ذكر سيمشي-ليفي، وذلك للحدّ من خطر انقطاع الإمدادات، إذا ما نشبَتْ حرب تجارية بين الولايات المتحدة، والصين. وربما يؤدي تفشّي فيروس كورونا إلى المُضيّ بسرعةٍ أكبر في هذا الاتجاه. وفي تعليقها على ذلك.. قالت كروفاه: “كان من المتوقَّع أن تحدث بعض الصدمات، لكنَّ أحدًا لم يتوقع حدوث صدمةٍ بهذا الحجم. أعتقد أنها سوف تُفضي إلى إعادة النظر جذريًّا في ذلك الخطر”.
كان زخم التحوُّل إلى التجارب الإكلينيكية الافتراضية يتنامى تدريجيًّا على مدى سنوات، ولكنَّ كوتليار يرى أنَّ عاملَين اعترضا سبيل التقدّم على هذا الصعيد: غياب التوجيهات الواضحة من الجهات الرقابية المختصة، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، والإحجام عن الاستثمار في التكنولوجيا اللازمة لإجراء تلك التجارب. كان ذلك حتى عصفت الجائحة بالعالم، فإذا بشركةٍ مثل “ساينس 37” تشهد -فجأةً- صعودًا مدوِّيًا لشعبيتها. يقول كوتليار: “لقد عجَّلت الجائحة بتبنِّي النهج الذي كنَّا نسلُكُه بالفعل”، وأضاف: “كان ذلك ضربًا من الخيال”.
ففي جامعة مينيسوتا، الواقعة بمدينة مينيابوليس الأمريكية، على سبيل المثال، أجرى ديفيد بولوِير -الاختصاصي في الأمراض المعدية- وزملاؤه تجربة افتراضية منضبطة وعشوائية لعقار “هيدروكسي كلوروكين” hydroxychloroquine، المستخدَم في علاج الملاريا، لمعرفة ما إذا كان يمكنه حماية الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بمرض “كوفيد-19″، أم لا. في هذه التجربة -التي ضمَّت أكثر من 800 مشارك، وانتهت إلى عدم جدوى العقار (D. R. Boulware et al. N. Engl. J. Med. http://doi.org/dxkv; 2020)- أرسل الباحثون الأدوية إلى المشاركين عبر خدمة التوصيل المتاحة من شركة “فيديكس” FedEx، وتابعوا حالتهم الصحية عن بُعد.
لطالما أوصى المدافعون عن حقوق المرضى بإجراء مزيدٍ من التجارب الافتراضية. وإذا ما استمر الأخذ بهذا النهج، فسوف يكون من شأنه تسريع وتيرة عملية تسجيل المشاركين، وهي من بين الجوانب التي تستنزف وقتًا طويلًا في تطوير العقاقير.والآن، بعدما دفعت الجائحة المراكز الطبّية إلى التزوُّد بما يلزم من التقنيات التي هي أحوَجُ ما تكون إليها، وبعدما أجبرتْ إدارةَ الغذاء والدواء على إصدار التوجيهات الخاصَّة بإجراء التجارب الافتراضية إبان الجائحة، ترى كروفاه أنه بات من الصعب تَصوُّر عودة البحوث الإكلينيكية إلى ما كانت عليه من قبل. وتقول: “سوف ننظر إلى تلك التجارب الافتراضية على أنها جزء طبيعيّ جديد من البحوث الإكلينيكية. لقد انكشف ما كان خفيًّا لفترة طويلة”.