أطلس جديد أكثر تفصيلًا للقشرة الفرعية للدماغ البشرية
تستحوذ خرائط الدماغ على أهمية خاصة بالنسبة لأطباء جراحة المخ والأعصاب؛ فهي الدليل الذي يهديهم لتحديد مناطق الدماغ التي تتحكم في الرؤية والكلام والحركة بدقة، فيستطيعون تفادي التأثير عليها في أثناء جراحات الدماغ.
ومنذ القرن التاسع عشر، ركّز رسامو خرائط الدماغ في الغالب على رسم خرائط مناطق وشبكات الطبقة الخارجية للدماغ البشري، المعروفة باسم القشرة الدماغية (Cerebral Cortex) التي تقع في عمق مركز الدماغ، وتعالج كل شيء، بدايةً من الحواس الأساسية وانتهاءً بالذكريات طويلة المدى.
لكن في المقابل، فإن تضاريس القشرة الفرعية (Subcortex) -وهي جزء يقع أسفل القشرة الدماغية مباشرة- لا تزال مجهولة المعالم حتى الآن.
ولسبر أغوار هذه المنطقة، نجح علماء من جامعة ملبورن الأسترالية، في رسم أطلس جديد، وصفوه بأنه الأكثر تفصيلًا حتى الآن للقشرة الفرعية للدماغ البشرية، ونشروا نتائج دراستهم في العدد الأخير من دورية (Nature Neuroscience).
وكشف الأطلس الجديد النقاب عن بنية هرمية معقدة بشكل مذهل للقشرة الفرعية للدماغ، بالإضافة إلى 27 منطقةً وظيفيةً جديدة.
البروفيسور أندرو زاليسكي -من مركز ملبورن للطب النفسي العصبي، بجامعة ملبورن الأسترالية، وقائد فريق البحث- يقول: “مثلما كانت أطالس العالم أمرًا حيويًّا للرحّالة في الماضي، فإن أطالس الدماغ ضرورية أيضًا لجراحي الأعصاب الذين يتنقلون في القشرة الفرعية لزرع أقطاب كهربائية لتحفيز الدماغ العميق وغيرها من العلاجات المستهدفة.
وأضاف في حديث لـ”للعلم”: “قمنا برسم أطلس شامل للقشرة الفرعية لدماغ الإنسان باستخدام تقنيات التصوير العصبي الوظيفية. كاشفين النقاب عن تخطيط معقد بشكل غير عادي للقشرة الفرعية للدماغ البشرية، من خلال تحديد 27 منطقةً وظيفيةً جديدة، منظمة بشكل هرمي عبر 4 مستويات، وقابلة للتكيف مع المتطلبات المعرفية المتغيرة للإنسان”.
ووفق الفريق، فإن الأطلس الجديد هو ثمرة جهد بحثي استمر سنوات، إذ بدأ الباحثون باستخدام الماسح الضوئي (3 Tesla MRI)، الذي يوجد عادةً في معظم أقسام الأشعة بالمستشفيات، ثم استخدموا بعد ذلك الماسح الضوئي عالي الدقة (7 Tesla MRI) لإعادة إنتاج الأطلس، والكشف عن مناطق جديدة بتفاصيل غير مسبوقة.
واكتشف الفريق 27 منطقة جديدة من القشرة الفرعية للإنسان، تم تعيين كلٍّ منها بحدود مميزة ومرتبطة بوظيفة مميزة. كما كشف الأطلس عن بنية تنظيمية معقدة بشكل مذهل تمتد عبر 4 مستويات هرمية.
وبشكل مثير للدهشة، رصد الفريق تغيرًا في الحدود التي تفصل بين بعض المناطق، عندما طلبوا من المشاركين في الدراسة الانخراط في مهمات معرفية في أثناء فحص الدماغ، وهذا يعني أن هذه المناطق من القشرة الفرعية ديناميكية، ويمكن إعادة تنظيمها اعتمادًا على تصرفات الفرد وأفكاره.
وتابعوا أنه بشكل حاسم، يوفر الأطلس لعلماء الأعصاب فرصًا جديدةً لدراسة وظيفة قشرة الدماغ الفرعية في الصحة والمرض.
أهداف علاجية
وعن أهمية النتائج، أفاد “زاليسكي” بأنه يمكن استخدام الأطلس الجديد للمساعدة في اختيار وتحديد أهداف للعلاجات الجديدة، مثل التحفيز العميق للدماغ (DBS) والتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS)، وهما إجراءان يُستخدمان للتنبيه العميق للدماغ من أجل معالجة حالات مثل الاكتئاب واضطراب الوسواس القهري والصرع وباركنسون.
وتابع أن الأطلس الجديد كشف أن اضطراب الوسواس القهري يرتبط بتغيُّرات الدماغ في منطقة رئيسية بالقشرة الدماغية الفرعية، لذا نستخدم حاليًّا الأطلس لتحسين أهداف التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة في تجربة سريرية مستمرة لعلاج هذا الاضطراب.
وأضاف أنه من دون أطلس مفصل، قد يكون استهداف مناطق معينة من القشرة الدماغية أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، ويمكن للدقة غير المسبوقة للأطلس الجديد أن تساعد في توصيل العلاجات المستهدفة إلى مناطق محددة للغاية بالقشرة الفرعية.
ووفقًا للدراسة، فإن القشرة الفرعية بمنزلة حارس البوابة المركزي للدماغ، إذ تعدّل معلومات المدخلات والمخرجات بين الطبقات الخارجية للدماغ وبقية الجسم.
ويكشف الأطلس الجديد عن كيفية اتصال مناطق معينة من القشرة الفرعية ببقية الدماغ، وتَشكُّل شبكات على مستوى الدماغ تنظم كل شيء من الوظيفة المعرفية إلى المعالجة الحسية والحركية.
وقال “زاليسكي”: “في حين أن القشرة الفرعية بعيدة مكانيًّا عن الطبقات الخارجية للدماغ، وجدنا أن كل منطقة من المناطق الـ27 المكتشَفة حديثًا تحت القشرية الفرعية تعرض أنماط نشاط متزامنة بشكل كبير مع أجزاء معينة من القشرة الدماغية”.
الذكاء الاصطناعي.. تشخيص وتنبؤ
اعتبر محمد سلامة -أستاذ علم السموم العصبية، ومدير مركز البحوث الطبية التجريبية بجامعة المنصورة- أن نتائج هذه الورقة البحثية “الرائعة” تمثل إضافةً قويةً وممتازة، يمكن أن تمهد لاستخدام الذكاء الاصطناعي، ليس فقط في تشخيص الأمراض، بل في التنبؤ بالأمراض العصبية أيضًا.
وأضاف في تصريحات لـ”للعلم”، أن الفريق استخدم إحدى التقنيات الحديثة في رسم أطلس الدماغ، وهي (7 Tesla MRI)، وهذا يعطي أفضليةً كبيرةً للنتائج التي توصل إليها.
وعن أهمية النتائج، أوضح “سلامة” أن نقطة التحول الرئيسية التي يمكن البناء عليها، هي استخدام نتائج هذا الأطلس كركيزة أساسية يمكن البناء عليها لتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي، سواء لتشخيص الأمراض العصبية وعلى رأسها ألزهايمر، أو للتنبؤ بها قبل سنوات من ظهور الأعراض.
وتابع أن التأخر في استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأمراض العصبية، سببه أن تقنيات الأشعة كانت تركز على تشخيص أعراض الأمراض الموجودة بالفعل، ولم يكن هناك بيانات كافية حول مناطق معينة في الدماغ؛ لتغذية خوارزميات الذكاء الاصطناعي بها، بسبب محدودية نتائج تقنيات الأشعة. لكن التقنيات المتطورة المتاحة حاليًّا يمكن أن تمهد بقوة لاستخدام الذكاء الصطناعي، ليس فقط في التشخيص الدقيق، بل في التنبؤ بالأمراض أيضًا.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يتنبأ بالأمراض العصبية مثل ألزهايمر وباركنسون فقط، ولكن يمكن أن يرصد الأمراض النفسية والعصبية الأخرى، ما يمهد لقفزة كبيرة جدًّا في التشخيص والعلاج.
لكنه أشار إلى أن هذه القفزة قد تمس جانبًا أخلاقيًّا يجب الالتفات إليه، وهو أنه مع التطور في تقنيات التنبؤ بالأمراض العصبية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشير -على سبيل المثال- إلى إمكانية إصابة شخص بعينه بألزهايمر في غضون 10 سنوات. وهنا يأتي التساؤل: هل يمكن أن يكون هذا ذريعةً بأيدي أرباب الأعمال وشركات التأمين لإنهاء خدمات هذا الشخص؟ أو هل سيكون إجراء فحوصات على الدماغ من متطلبات وظيفة معينة؟ وهذا يتطلب بطبيعة الحال وجود دليل وقواعد حاكمة لضبط هذه المسألة المستحدثة.
التنظيم الوظيفي للقشرة الفرعية
من جانبه، رأى معتز عاصم -الباحث المشارك في وحدة الإدراك وعلوم الدماغ بمركز البحوث الطبية، كلية الطب السريري، جامعة كامبريدج في بريطانيا- أن الدراسة تمثل مَعلمًا جديدًا في محاولة تحديد التنظيم الوظيفي واسع النطاق للقشرة الفرعية البشرية.
“عاصم” قدّم في حديث لـ”للعلم” لمحة سريعة لما تم تحقيقه من قبل في هذا المجال، قائلًا: إن الدراسات التشريحية التقليدية ساعدت على تطوير خريطة أولية للقشرة الفرعية، لكنها اقتصرت على دراسة قطع صغيرة فقط من القشرة الفرعية في أثناء كل تجربة، وبالتالي كان التقدم بطيئًا بشكل عام في بناء نظرة عامة على التنظيم الوظيفي للقشرة الفرعية.
وأضاف أنه مع ظهور التصوير الوظيفي غير الجراحي بالرنين المغناطيسي، أنشأت العديد من الدراسات السابقة خرائط وظيفية أولية للقشرة الفرعية البشرية، لكن الدراسة الجديدة هي واحدة من أكثر الدراسات تفصيلًا؛ إذ قسمت مناطق معينة من القشرة الفرعية إلى عشرات القطع الصغيرة، كلٌّ منها يبلغ بضعة ملليمترات، وذلك بفضل استخدام مجموعة بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي عالية الجودة لمشروع الشبكة الوراثية البشرية، وتطوير طرق جديدة لتحليل هذه البيانات الغنية.
واعتبر أنه من منظور علمي أساسي، تُعد هذه النتائج مهمةً لعدة أسباب: أولها أنها توفر خريطةً أفضل للدماغ البشري بصورة أوضح لوظيفة الدماغ الطبيعية. وثانيًا أن هناك إدراكًا متزايدًا في مجال رسم خرائط الدماغ البشري لمفهوم أن تنظيم الدماغ الوظيفي ديناميكي، أي يتغير في النمط بناءً على الحالة العقلية الحالية/المهمة السلوكية، ولم يكن واضحًا ما إذا كان هذا ينطبق أيضًا على القشرة الفرعية للدماغ؛ لأن الحقل يفتقر إلى أطلس مفصل، وهذا ما أثبتته الدراسة.
السبب الثالث، وفقًا لـ”عاصم”، أن الدراسة أظهرت أن أطلس الدماغ الذي طوروه في أثناء الراحة، على سبيل المثال، بينما كان المشاركون يرقدون بصمت تحت الماسح الضوئي ولا يؤدون أي مهمة، يمكن أن يتغير بناءً على فحص المشاركين أنفسهم في أثناء أدائهم للمهمات، أي يحدث نوع من إعادة التنظيم. هذه التغييرات الديناميكية في التنظيم الكلي للدماغ البشري هي موضوع ساخن للغاية في محاولة فهم وظيفة الدماغ البشري في أثناء الصحة، وكيف تتأثر في أثناء الأمراض العصبية والنفسية.
ومن منظور سريري، أشار إلى أن الأطلس الجديد يمكن العلماء من تحديد مناطق بالقشرة الفرعية للدماغ، لاستهدافها بالتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS)، على سبيل المثال تلك المتعلقة بالوسواس القهري. كما يمكن أن يكون مستوى الدقة التشريحية لهذه الدراسة مفيدًا أيضًا في التحفيز العميق للدماغ (DBS)، الذي يُستخدم للتغلُّب على الاضطرابات الحركية مثل مرض باركنسون.
لكنه استطرد أنه على الرغم من المجهود البطولي لفريق البحث، إلا أن القشرة الدماغية البشرية لا تزال منطقةً مجهولةً بشكل كبير. إنها مثل صحراء شاسعة مليئة بنوى صغيرة جدًّا. حددت هذه الدراسة التنظيم الوظيفي لبعض النوى الكبيرة فقط، ولكن يوجد عدد أكبر من النوى الصغيرة لا تزال وظيفتها غير معروفة. إن استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي عالي المجال -أي باستخدام مغناطيس أقوى، مثل (7 Tesla MRI) أو أعلى- ضروري لفهم هذه النوى الصغيرة الإضافية.
واتفق معه “زاليسكي”، مؤكدًا أنه برغم التفاصيل غير المسبوقة التي يكشفها الأطلس الجديد لجزء مهم من الدماغ البشري، إلا أنه يكشف أيضًا عن مقدار ما لم نتعلمه حتى الآن عن تعقيدات أدمغتنا.
وعن الخطوات المستقبلية، أشار إلى أن الفريق سيركز على الاستفادة من الأطلس الجديد للتحقيق في اتصال القشرة الفرعية وتحسين العلاجات المستهدفة مثل (TMS). “يمكن تطبيق النهج الذي سلكه الفريق على أجزاء أخرى من الدماغ، وقد أعرب العديد من المتعاونين عن اهتمامهم باستخدام نهجنا في هياكل الدماغ الأخرى”، وفق زاليسكي.
المصدر: https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/new-more-detailed-atlas-of-the-human-subcortex/