المعضلة التي قد تترتب على منح لقاحات «كوفيد-19» تصريح الاستخدام الطارئ
بعد موجة من النتائج الإيجابية التي حققتها التجارب الإكلينيكية المُجراة على لقاحات مرض “كوفيد-19″، سعى مُطوِّرو اللقاحات حاليًّا إلى الحصول على موافقات “الاستخدام الطارئ”، التي بموجبها بدأ تطعيم عشرات الملايين من البشر بهذه اللقاحات. غير أن العلماء قلقون حيال التعجُّل بطرح اللقاحات على هذا النحو، الذي قد يؤثر على التجارب الإكلينيكية الجارية، التي تسعى إلى تبيان مدى صلاحية هذه اللقاحات.
ففي أعقاب ظهور النتائج الأولية من تجارب المرحلة الثالثة في التاسع من نوفمبر الماضي، سعت شركتا “فايزر” Pfizer و”بيونتك” BioNTech إلى الحصول على تصريحٍ تنظيمي، يخوِّل لهما توزيع لقاحهما بموجب قوانين الاستخدام الطارئ في الولايات المتحدة. كما سعت شركة “موديرنا” Moderna، مطوِّرة أحد اللقاحات الرائدة الأخرى، للحصول على موافقات مشابهة للقاحها في كل من الولايات المتحدة وأوروبا خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر.
وبمجرد حصول أيٍّ من اللقاحات على تصريح الاستخدام الطارئ، سيكون مطوِّرو اللقاح مطالَبين بتطعيم المشاركين في التجربة، ممن تلقّوا لقاحًا وهميًّا، ولكنْ إذا كثُر عدد الأشخاص الذين يتحوَّلون من مجموعة اللقاح الوهمي إلى مجموعة اللقاح الحقيقي، فقد لا يتوفَّر للشركات من البيانات ما يكفي لتحديد الآثار الممتدة، ومنها ما يتعلَّق بأمان اللقاح، ومدة استمرار الحماية التي يوفرها، وما إذا كان قادرًا على الوقاية من الإصابة بالعدوى من الأصل، أم أنه يَحُول دون تطوُّر المرض فحسب.
ويرى كلاوس شتور، الذي سبق أن ترأَّس عمليات تصميم اللقاح في شركة الأدوية “نوفارتس” Novartis، التي تتخذ من مدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس مقرًّا لها، والمتقاعد حاليًّا، أنَّ “هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه عملية تطوير اللقاح”. ومع ذلك، فما زال شتور يعتقد بضرورة منح اللقاح تصريح الاستخدام الطارئ، لأنّ فعاليته قد تأكدت، إضافةً إلى الحاجة المُلحَّة إليه.
ويُعَد هذا السجال الدائر بين إجراء التجارب الإكلينيكية على اللقاحات، من جهة، ومنحها تصريح الاستخدام الطارئ من جهةٍ أخرى، أمرًا مستجدًّا على عمليات تطوير اللقاحات. ففي شهر نوفمبر الماضي، وفي سابقةٍ هي الأولى على الإطلاق، اعتمدت منظمة الصحة العالمية الاستخدام الطارئ للقاحٍ لا يزال قيد الاختبار، ضد أحد أنواع فيروس شلل الأطفال المنتشر في نصف الكرة الجنوبي، على الرغم من أن تجارب المراحل الثالثة لهذا التطعيم لم تبدأ بعد.
وفي العشرين من نوفمبر، تقدمت شركة “فايزر” -ومقرها في نيويورك- وشركة “بيونتك” -ومقرها في مدينة ماينتس الألمانية- إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بطلب الحصول على تصريح الاستخدام الطارئ للقاح الذي اشتركت الشركتان في تطويره. وفي الثلاثين من الشهر ذاته، تقدمت شركة “موديرنا” بطلب للحصول على تصريح الاستخدام الطارئ في الولايات المتحدة، وآخر للحصول على تصريح التسويق المشروط من وكالة الدواء الأوروبية. وطبقًا لقواعد إدارة الغذاء والدواء الخاصة بلقاحات “كوفيد-19″، يمكن للشركات التقدم للحصول على تصريح الاستخدام الطارئ، شريطة متابعة نصف المشاركين في التجارب (البالغ عددهم 43 ألف مشارِك في تجربة لقاح “فايزر”، و30 ألفًا في تجربة “موديرنا”)، وذلك على مدى شهرين بعد تلَقِّيهم آخر جرعة من اللقاح.
وقد اجتمعت اللجنة الاستشارية للقاحات، التابعة لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، في العاشر من ديسمبر الجاري، للتشاور بشأن الطلب المقدَّم من شركة “فايزر”، وبعدها بأسبوع لمناقشة طلب شركة “موديرنا”. وبعد تقييم بيانات الشركات الثلاث، والنظر فيما إذا كانت اللقاحات آمنة وفعالة بما يجعلها صالحةً للاستخدام المحدود، منحَتْ اللجنة تصريح الاستخدام الطارئ لكلا اللقاحين.
معضلة اللقاحات
بمجرد حصول اللقاحين المذكورين على تصريح الاستخدام، قامت لجنة مشكَّلة من “مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها” الأمريكية، التي يقع مقرها في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، بتحديد المجموعات التي يَلزَم تطعيمها أولًا، واضعةً في اعتبارها الفئات الأكثر تضررًا، مثل كبار السن، وأصحاب الأمراض التي تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بـ”كوفيد-19″، مثل مرض السكري، وكذلك العاملين في قطاع الرعاية الصحية.
ويقول جيروم كيم، المدير العام للمعهد الدولي للقاحات في العاصمة الكورية الجنوبية سول: إن من الأمور التي لا يكاد يرقى إليها شك أنَّ البدء المبكر في تلقيح الأكثر عرضة لأخطار المرض من شأنه أن ينقذ أرواحًا. وأضاف أنّ اللقاحين محل النظر قد خضعا للاختبار لمدة شهرين فقط، ومع ذلك.. يبقى من السابق لأوانه تحديد مدة فعالية اللقاح.
عادةً ما تكون تجارب اللقاحات “معمَّاة”، أي لا يعلم المشاركون فيها ما إذا كان اللقاح الذي تلقَّوه حقيقيًّا، أم وهميًّا. ولكنْ كما يقول بول أوفيت، باحث اللقاحات في مستشفى فيلادلفيا للأطفال في ولاية بنسلفانيا، متى ثبتَتْ فعالية اللقاح، يكون من الصعب مطالبة المشاركين بالبقاء في فئة اللقاح الوهمي دون وقاية. ويعلق على ذلك بقوله: “إنها مسألة أخلاقية”.
كانت شركة “فايزر” قد بعثَتْ بخطاب -اطَّلعَتْ عليه دورية Nature- إلى المشاركين في تجربتها، في العاشر من نوفمبر الماضي، ينصُّ على أن الشركة بصدد بحث الطرق التي من شأنها تمكين الراغبين من المشاركين في مجموعة اللقاح الوهمي، ممن يستوفون المعايير المؤهِّلة، من تحويلهم إلى مجموعة الحاصلين على اللقاح الفعليّ. وفي هذا الشأن، أفاد متحدث باسم شركة “فايزر”، في رسالة إلكترونية بعث بها إلى الدورية، أن الشركة لديها “التزام أخلاقي بإبلاغ جميع المشاركين في الدراسة بتوافر لقاح طارئ مصرح به”.
وقد تواصلَتْ دورية Nature مع حوالي اثني عشر مشاركًا في التجارب المُجراة على لقاح “فايزر–بيونتك”، ولقاح “موديرنا”، وأشار غالبيتهم إلى أنه لو نما إلى علمهم أنهم ضمن مجموعة اللقاح الوهمي، فسوف يُقْبِلون على تلقِّي اللقاح الحقيقي، متى عُرض عليهم. وفي تصريحٍ أدلَتْ به إيما برناي، المقيمة بمدينة سينسيناتي في ولاية أوهايو، وإحدى المشارِكات في تجربة “موديرنا”، قالت: “أحد الأسباب التي دفعتني إلى المشاركة هو إدراكي أن معيار تعمية الدراسة سوف يُرفع بمجرد التوصُّل إلى لقاح عالي الفعالية، ومن ثم يُتاح لجميع المجموعات”.
تحوُّل أخلاقي
أما شتور، فيرى أنه إذا كثُر عدد المشاركين المتحوِّلين من مجموعة اللقاح الوهميّ إلى مجموعة اللقاح الفعليّ، فلن تتبقَّى للتجارب مجموعات ضابطة كبيرة الحجم بما يكفي للخروج بنتائج دالّة إحصائيًّا، على النحو الذي يخدم بعض الأهداف بعيدة المدى. وسوف يكون من بين التبعات المترتِّبة على هذا التحوُّل.. التغاضي عن اعتبارات الأمان طويل المدى، وتلك المتعلقة بتحديد مدى قدرة اللقاح على الوقاية من الإصابة بفيروس “سارس-كوف-2” SARS-CoV-2، أم تُرَى أنه يقتصر على توفير الحماية للأشخاص المصابين بالفيروس من تطوُّر مرض “كوفيد-19” الناجم عنه؟ كما يشير لاري كوري -اختصاصي اللقاحات في مركز فريد هاتشينسون للأبحاث في مدينة سياتل بولاية واشنطن- إلى احتمال انسحاب المشاركين في تجارب اللقاحات الأخرى، بخلاف لقاحَي “فايزر–بيونتك”، و”موديرنا”، للحصول على اللقاح المعتمَد بموجب أحكام الاستخدام الطارئ.
وذكر المتحدث باسم شركة “فايزر” أن الشركة تعتزم أن تبحث مع إدارة الغذاء والدواء الأمريكية كيفية جمع البيانات، لقياس مدى أمان اللقاح وفعاليته، على نحوٍ شامل، حالَمَا قرر المشاركون التحوُّل من مجموعة اللقاح الوهمي إلى مجموعة اللقاح الفعلي. وقد جاء في خطة الشركة للتجارب الإكلينيكية أنها تعتزم متابعة المشاركين لمدة عامين بعد تَلَقِّيهم آخِر جرعة من اللقاح. أما شركة “موديرنا”، فلم تُجِب عن تساؤلات الدورية، المتعلقة بالكيفية التي سوف يؤثر بها تصريح الاستخدام الطارئ على تجاربها.
كما تواجه هذه الإشكاليات مطوري لقاحات “كوفيد-19” الأخرى كذلك. وعلى سبيل المثال، لا يشك إدواردو سبيتزر -المدير العلمي لدى “معمل إليا فونيكس” Elea Phoenix Laboratory، الواقع في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، الذي يُجْرِي التجارب في الأرجنتين على اللقاح الصيني الذي تنتجه شركة “سينوفارم” Sinopharm في بكين- في أن الأرجنتين مُقبِلة على البدء في إطلاق برنامج للتطعيم ضد المرض، بموجب تصريح الاستخدام الطارئ للقاح. وعندما يحدث ذلك، فإن الأطباء، وأطقم التمريض، وغيرهم ممن يتقدمون الصفوف في مواجهة الجائحة، والذين شارك كثيرٌ منهم في التجربة، سيتلقون التطعيم إلزاميًّا، ومن ثم فلن يكونوا مؤهلين للمُضيِّ في التجربة. أضِف إلى ذلك أنّ نسبةً من المشاركين في مجموعة اللقاح الوهمي تزمع الانسحاب للحصول على جرعة من اللقاح الفعليّ. ويقول سبيتزر: “إنني على يقين، بنسبة 200%، من أن التجارب سوف تتأثر بتصريح الاستخدام الطارئ”.
من جانبها، ترى كاثلين نيوزيل -مديرة تطوير اللقاحات والصحة العالمية في جامعة ميريلاند في بالتيمور- أن “هناك سبلًا للتعامل مع تلك الإشكاليات، دون الإضرار بنتائج التجربة”. وإضافةً إلى ذلك.. تشغل نيوزيل منصب الرئيس المشارِك لشبكة تجارب الوقاية من مرض “كوفيد-19″، التابعة لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، والمسؤولة عن تنظيم التجارب الإكلينيكية لعدد من الشركات، من بينها شركتا “فايزر” و”موديرنا”. وتقول نيوزيل: “بالنسبة إلى المشاركين الذين تلَقّوا في البداية لقاحًا وَهْمِيًّا، ثم انضمُّوا إلى صفوف المتلقِّين للقاح الفعلي، من الممكن متابعتهم بوصفهم مجموعة منفصلة، ومن ثم يمكن عقد المقارنات الرامية إلى الوقوف على مستوى فعالية اللقاح على المدى البعيد، ومدى أمانه، بين تلك المجموعات”. كانت نيوزيل قد طبَّقت إجراءً مشابِهًا، لتحديد فترة الحماية التي وفَّرها لقاح داء “الهِرْبِس النطاقِيّ” shingles لأول مرة.
وعلى الصعيد نفسه، يرى كوري أن بإمكان الشركات، قبل كشف التجارب المعمَّاة، أن تطلب من المتطوعين البقاء قيد الدراسة ريثما تنتهي التجربة، وحينئذٍ يتلقَّون اللقاح الفعليَّ على الفور.
وفي تصريحٍ أدلى به لدورية Nature، ذكر كريستيان سميرز -المقيم بمدينة هيوستن في ولاية تكساس، وأحد المشاركين في تجربة “فايزر”- أنه يعي أهمية وجود مجموعة اللقاح الوهْمِيّ لإجراء المزيد من الاختبارات، وأنه يفكر في البقاء في التجربة.
ويذهب إنج أونج أُويْ، الباحث في مجال الأمراض المُعدية في كلية الطب التابعة لجامعة ديوك وجامعة سنغافورة الوطنية، ومقرُّها في سنغافورة، إلى أنَّ بإمكان الشركات والجهات التنظيمية أيضًا جمع البيانات ذات الصلة بأمان اللقاح وفعاليته عن الأفراد المُصَنَّفين ضمن الفئات الأشد عُرضةً لأخطار المرض، ممن أقبلوا على شراء اللقاحات.
“لا يمكننا الجمع بين الحُسْنَيَيْن.. فالعالم بحاجة إلى ما بأيدينا حاليًّا”.
يرى أُوي أنَّ بياناتٍ مثل تلك قد يشوبها الانحياز، إذ لا يمكن مقارنتها ببيانات المجموعة الضابطة، إلا أنها قد تطرح رؤًى مفيدة بشأن الأمان والفعالية. ويقول: “لا نستطيع الجمع بين الحُسْنَيَيْن، فالعالَم بحاجة إلى ما بأيدينا حاليًّا”.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مَنْح أحد لقاحات “كوفيد-19” تصريح الاستخدام الطارئ يزيد من تعقيد تجارب اللقاحات التي تليه، وفقا لما صرَّح به أُوي، الذي يعكف على تطوير لقاح لا يزال في مراحله التجريبية المبكرة. ويعتقد أُوي أن الشركات التي تشرع في إجراء تجارب جديدة قد يتعين عليها التدليل على أنَّ لقاحاتها أفضل من تلك التي مُنِحَت تصريح الاستخدام الطارئ، مما يرفع من تكلفة إجراء تلك التجارب. ويقول: “إن اعتماد أي لقاح، وإنْ اقتصر على الاستخدام الطارئ، سوف يغيِّر طريقة خروج اللقاحات وطرحها في الأسواق”.
المصدر: https://arabicedition.nature.com/journal/2021/01/d41586-020-03219-y/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B6%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%82%D8%AF-%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%86%D8%AD-%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AD%D8%A7%D8%AA-%C2%AB%D9%83%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%AF-19%C2%BB-%D8%AA%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D8%A6