موضوع الهلع هو من حالات القلق دون غيره، هو ذلك الانطباع الذي تكون لدي بعد سنوات طويلة من ممارسة الطب النفسي في أماكن مختلفة بأنه الاصل في كثير من الأمراض المختلفة التي يذهب الناس بسببها للعلاج لدى الأطباء من مختلف التخصصات هو القلق، بل اكثر من ذلك؛ فقد لاحظت أثناء مراقبتي للحياة في تعاملاتي اليومية مع الآخرين أهمية القلق في تأثيره على سلوكيات الناس و أسلوبهم في تناول أمور الحياة المعتادة و ردود افعالهم في مواقف الحياة المختلفة .

وهنا محاولة لإلقاء الضوء على موضوع نعتقد انه من الأهمية بمكان بالنسبة لنا جميعا من مختلف قطاعات المجتمع، و به – اضافة إلى الحقائق العلمية التي تضمنها – حرصت على وضع خبرتي المتواضعة من خلال عملي في مجال الطب النفسي و حاولت التركيز على أساليب العلاج و الإرشادات التي تساعدنا في التغلب على القلق و التوتر.

الهلع:

لاحظ الأطباء مؤخراً زيادة كبيرة في المرضى الذين يعانون من حالات غامضة تتمثل في نوبات من القلق والرعب الهائل مدتها قصيرة نسبياً لكنها مصحوبة بأعراض مرضية مزعجة تدفع المرضى إلى البحث عن العلاج في المستشفيات وأقسام الطوارئ وعيادات الأطباء من مختلف التخصصات وأحياناً في غرف الرعاية المركزة.

ويحيط الغموض بهذه الحالات بالنسبة للمرضى وأقاربهم وكذلك بالنسبة لمعظم الأطباء؛ حيث يتم تشخيص هذه الحالات على أنها نوبات قلبية أو حالات عصبية مصحوبة بفقدان الاتزان أو أمراض عضوية حادة، وهنا في هذا الموضوع نلقي الضوء على هذه الحالات من حيث انتشارها والأسباب المحتملة لها والأعراض المصاحبة لهذه النوبات وكيفية التعامل معها والجديد في تشخيص وعلاج هذا المرض الذي يعتبر من الاضطرابات النفسية الشائعة في العصر الحديث.

نوبات الهلع: 

ظهر مصطلح اضطراب الهلع Panic disorder، ونوبات الهلع في مراجع الطب النفسي الحديث لوصف حالة مرضية غامضة تصيب نسبة كبيرة من الناس من مختلف الأعمار، وبالعودة إلى وصف هذه الحالة في الماضي فإنها تشبه حالة مرضية وصفها الطبيب “داكو ستا DA Costa” حيث كانت تصيب الجنود أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وكذلك وصفها سيجموند فرويد (1856-1936) وهي حالة تتميز بتفاعل القلق والخوف مع سرعة ضربات القلب وسرعة التنفس وضيق الصدر وتكون مصحوبة بحالة أخرى يطلق عليها فوبيا الأماكن العامةAgoraphobia وهي حالة نفسية تصيب السيدات غالباً عند التواجد خارج المنازل في الأسواق أو الأماكن العامة.

وتقدر نسبة الإصابة بنوبات الهلع بعد أن تزايد انتشارها مؤخراً بحوالي 12% من الناس من مختلف الأعمار، ويعني ذلك وجود ملايين المرضى الذين يعاني معظمهم في صمت ولا يدركون أن المشكلة تتمثل في الإصابة باضطراب نفسي قابل للعلاج، وتحدث الحالة في النساء بنسبة تصل إلى ضعف نسبة الإصابة في الرجال، ورغم أن الحالة قد تصيب صغار السن من الأطفال والمراهقين والشباب، وكذلك كبار السن، إلا أن أعلى معدلات حدوثها في سن 25 عاما، ويتفاوت تكرار هذه النوبات من شخص إلى آخر. فبينما تحدث في بعض الناس عدة مرات في اليوم الواحد فإن نسبه أخرى قد تحدث لديهم النوبات لعدد قليل من المرات كل عام، وتسبب هذه الحالات آثار متفاوتة قد تصل إلى حد الإعاقة الكاملة لبعض الناس فلا يمكنهم القيام بأعمالهم أو واجباتهم الأسرية والاجتماعية، وقد تمنع الإصابة للشخص من الخروج من بيته.

كيف تحدث نوبات الهلع:

 

شغل الأطباء النفسيون التوصل إلى الأسباب المحتملة لحالات الهلع، والكيفية التي تحدث بها النوبات، وقد سارت الأبحاث في اتجاهين أولهما البحث عن عوامل نفسية مثل الضغوط والصدمات ومواقف الحياة الأليمة التي يؤدي التعرض لها إلى حدوث نوبات الهلع، ويتمثل الاتجاه الثاني في البحث عن عوامل بيولوجية تؤثر على وظائف الجهاز العصبي وكيمياء المخ بما يؤدي في النهاية إلى حدوث هذه النوبات، وبالنسبة للعوامل النفسية فقد ثبت أن نسبه كبيرة من المرضى الذين يعانون من نوبات الهلع لديهم تاريخ مرضي سابق لبعض الصعوبات النفسية التي تتمثل في صدمات أو مواقف خوف ورعب تعرضوا لها في مراحل العمر السابقة خصوصاً في فترة الطفولة.

وأذكر هنا حالة سيدة في العقد الثالث من عمرها حضرت إلى العيادة النفسية تشكو من نوبات هلع تنتابها بصورة متكررة عقب الزواج، وذكرت السيدة أن النوبات تحدث بصفة خاصة في الفترة الصباحية حين تكون في المنزل بمفردها بعد أن يتوجه زوجها إلى عمله، وبعد عدة جلسات تم التوصل إلى أن هذه السيدة قد تعرضت لموقف وهي طفلة في السنة الثانية من العمر حيث تركها والديها نائمة داخل سيارتهما الخاصة ثم عادا إليها بعد مدة كانت خلالها قد استيقظت من النوم وراحت تصرخ حين لم يمكنها فتح أبواب السيارة المغلقة وتجمع حولها بعض المارة فظل هذا الموقف ماثلاً في ذاكرتها لتظهر عليها الأعراض المرضية لنوبات الهلع بعد مرور أكثر من عشرين عاماً، ويوضح ذلك الأسباب النفسية لنوبات الهلع، والمعنى الرمزي للمواقف التي تسببها مثل التواجد في مكان مغلق كما في هذه الحالة.

أما بالنسبة للعوامل البيولوجية فقد عكف علماء النفس والأعصاب على دراسة التغييرات التي تصيب وظائف المخ وكيمياء الجهاز العصبي التي تصاحب نوبات الهلع، وقد تبين أن الجهاز العصبي الذاتي autonomic nervous system الذي ينظم بعض وظائف أجهزة الجسم الأخرى يكون في حالة نشاط زائد مع نوبات الهلع، كما تبين أن كيمياء المخ تتغير بصورة ملحوظة في مرض اضطراب الهلع خصوصاً فيما يتعلق ببعض المواد الطبيعية التي تقوم بتنظيم الإيقاع بين خلايا المخ في المراكز التي تسيطر على الانفعالات والسلوك، وهناك ثلاث مواد هي نورابنفرين والسيروتينين، وجابا GABA لها علاقة مباشرة بنوبات الهلع، كما ترتبط نوبات الهلع بوجود تدلي في صمام القلب المترالي، وتغيرات في الجهاز العصبي تم الكشف عنها عن طريق الفحص بالأشعة المغناطيسية، كما أُجريت تجارب بحقن بعض المواد مثل لاكتات الصوديوم أو اليوهمبين yohimbin مما أدى إلى حدوث نوبات هلع مصطنعة في الأشخاص الذين لديهم استعداد الإصابة بهذه الحالة، وكل ذلك من شأنه أن يؤيد أثر العوامل العضوية في هذا المرض الغامض بالإضافة إلى العوامل النفسية.

كيف يؤثر الانفعال و القلق في حالات الهلع  على كل أعضاء و وظائف الجسم؟

وصف نوبات الهلع:

يصف المرضى نوبات الهلع بصورة تثير التعاطف معهم رغم أن المحيطين بهم لا يشعرون بمشكلتهم ومعاناتهم مع هذه الحالة؛ حيث يبدو المريض طبيعياً إلى حد كبير فيما بين النوبات، وتحدث النوبة فجأة وبصورة تلقائية في أي مكان، وتتصاعد حدة الأعراض لتصل إلى ذروتها خلال 10 دقائق، ورغم أن النوبة لا تستمر سوى 20–30 دقيقة في المتوسط ولا تزيد مدتها عن ساعة فإن هذه الدقائق تمر على المريض كأنها الدهر، وتتمثل الأعراض الرئيسية للنوبة فيما يلي:

– شعور هائل بالخوف والرعب دون أن يعرف المريض مصدراً لهذا الخوف.

– يصاحب ذلك خفقان وسرعة وعنف في ضربات القلب لدرجة تجعل الشخص يعتقد أنه أصيب بنوبة قلبية حادة.

– يتصبب العرق وتحدث رعشة في كل الجسم.

– يصاب المريض بالغثيان والدوخة وآلام في الصدر وتثمل في الجسم والأطراف ويصاب ذلك شعور بعدم الاتزان.

– ينتاب المريض إحساس بالاختناق وسحب الروح وشعور هائل بالخوف من احتمال الموت.

– صعوبة بالغة في الكلام واضطراب في الذاكرة، ويتحرك الشخص من مكانه بحثاً عن مخرج من حالة الهلع، وقد يقع مغشياً عليه أثناء النوبة في نسبه 20% من الحالات.

ويسأل الأطباء مرضاهم عن مُلابسات وظروف حدوث النوبات وارتباطها بالإثارة أو الإجهاد أو التوتر النفسي، وكذلك عن عاداتهم فيما يتعلق بالتدخين وتناول القهوة واضطرابات النوم، والوسط المحيط بهم في المنزل أو العمل، ولكن المؤكد أن حياة هؤلاء الأشخاص تتأثر بصورة بالغة من حيث علاقتهم في الزواج أو الأسرة وانتظامهم في العمل كما أن نسبه تزيد عن 50% منهم يصابون بالاكتئاب.

علاج حالات الهلع:

رغم الانتشار الواسع لحالات الهلع وما تسببه من عبء كبير على المصابين بها فإن الأمل في العلاج والشفاء يتزايد مع كشف غموض هذه الحالات، والتوصل إلى معرفة الكثير عن أسبابها وطرق تشخيصها وأساليب التعامل معها، ومن المهم التركيز على أن هذه الحالات لا تمثل مرضاً عضوياً، ولا يجب اللجوء إلى الأطباء من مختلف التخصصات وإجراء الكثير من الفحوص المعملية والخطوات غير الضرورية التي تهدد الكثير من طاقة المريض وجهده في البحث عن مرض بالقلب أو الجهاز التنفسي أوالجهاز العصبي، ومطلوب من المرضى وأقاربهم التمسك بالهدوء في مواجهة هذه الحالات والتخلي عن المخاوف والأوهام التي تصور أنها مقدمة لمرض عضوي أو عقلي خطير، فالأمر ليس كذلك ولا داعي لكل هذا القلق.

العلاج النفسيpsychotherapy:

من أساليب العلاج الأخرى استخدام الوسائل النفسية عن طريق جلسات العلاج النفسي الفردية والجماعية للمريض وأسرته، واستخدام وسائل التدريب على الاسترخاء والتعرض لبعض المواقف للتغلب على الأعراض وما تسببه من صعوبات أسرية واجتماعية، و بعد أن تأكد لنا ارتباط الفكرة التي تدور في ذهن أي منا بحالته الانفعالية فان عليك – عزيزي القارئ – إذا أصابك الهلع أو قبل ذلك ساورك القلق أن تحاول التخلص منه عن طريق محاولة الرجوع إلى الفكرة التي دارت بخاطرك و تسببت في النهاية في شعورك بالقلق و ليس ذلك بالامر الصعب فانك ستلاحظ أن بامكانك ضبط انفعال القلق و الوصول إلى الهدوء النفسي إذا قمت بمناقشة نفسك بطريقة موضوعية فيما تفكر فيه، فاذا استطعت تغيير تفكيرك فسوف تتخلص من سبب الانفعال و القلق والهلع، و إذا لم يكن ذلك سهلا بالنسبة اليك فعليك مناقشة مخاوفك وما يدور بعقلك مع صديق أو شخص له بعض الخبرة أو طبيب نفسي وسيكون بوسعك في النهاية وضع حد لفكرة القلق و تحقيق الاتزان النفسي.

ويسير علاج حالات الهلع في عدة اتجاهات أهمها العلاج بالأدوية النفسية مثل المهدئات والعقاقير المضادة للاكتئاب، وقد ظهر جيل جديد من الأدوية التي تؤثر في تركيز مادة السيروتونين يؤدي إلى نتائج إيجابية سريعة عند استخدامه، لكن الصبر مطلوب لحدوث استجابة جيدة حيث يتطلب ذلك 8 – 12 أسبوعاً حتى تتوقف النوبات، وهنا يجب الاستمرار لمدة كافية (من 8-12 شهراً) مع العلاج حتى يتحقق التحسن ولضمان عدم عودة الأعراض لهذه الحالة المزمنة حيث يحدث ذلك في نسبة 60% من الحالات بعد التحسن، ويتم العلاج الدوائي تحت إشراف الطب النفسي لاختيار الأدوية المناسبة بأقل آثار جانبية ممكنة. وقد يتم استخدام كل الأساليب العلاجية الدوائية والنفسية في نفس الوقت لتحقيق تحسن سريع ومنع كل المضاعفات المحتملة.

وفي ختام هذا المقال فإننا في مواجهة نموذج من أحد أمراض العصر النفسية التي تمكن الطب النفسي الحديث من التغلب على غموضها والتعامل معها لرفع المعاناة عن قطاع كبير من الناس ممن يتألمون نفسياً في كل مكان.