سقط من الحسابات.. وباء كورونا وآثاره على الصحة النفسية

دراسة تقترح إطار عملٍ منهجيّ لفهم تأثير الجائحة على الصحة النفسيةوكيفية التعامل مع الاضطرابات الناتجة عنها.

مع مرور الوقت، أصبح عمرو عبد الله، وهو طبيب مصري متخصص في طب القلب والأوعية الدموية، قادرًا على تمييز نمط شعوره بالقلق. فأثناء انهماكه في عمله اليومي بالمستشفى، لاحظ في نفسه درجة متوسطة من التوتر، تجلّت في الحرص على تنفيذ تعليمات الوقاية بدقة، ومتابعة الحالات عن قرب. ووصل هذا الشعور إلى أعلى درجاته وهو في طريقه إلى البيت، خوفًا من نقل عدوى محتمَلة إلى عائلته، بحيث تكون ذروة القلق هذه هي لحظة عودته ودخوله إلى منزله بالتحديد.

“وتزيد درجة القلق بالطبع لو كنتُ قد تعاملتُ مع حالات مصابة بفيروس كورونا بالفعل”، حسبما يصف عبد الله، مضيفًا أنه عانى من الأرق لمدة أسبوعين تقريبًا بعد تعامله مع حالات مصابة، خاصة عندما بدأ مناوباته في استقبال المستشفى، لفرز الحالات المشتبه في إصابتها بفيروس كورونا الجديد، واكتشافه بعد ذلك أن بعضًا من هذه الحالات جاءت نتائج تحليلاته إيجابية.

يعيش البشر منذ نهاية عام 2019 تغيرًا حقيقيًّا في أنماط حياتهم وطرق معيشتهم مع بداية ظهور فيروس “سارس- كوف- 2″، المتسبب في جائحة مرض “كوفيد- 19″، الذي يُعَد الخطر الصحي الأكبر الذي يشهده العالم منذ انتهاء وباء الإنفلونزا الإسبانية في عام 1919. وأحد الجوانب الأساسية التي تتضارب فيها الملاحظات وردود الأفعال، هو المرتبط بالصحة النفسية للأفراد، وبالذات العاملين منهم في قطاعات الرعاية الصحية، أثناء انتشار الوباء في العالم.  

يشيع هذا الاضطراب في لحظات مماثلة، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات التي يجلبها الوباء إلى عملية رصد الحالات النفسية، وتقييمها، وكذلك أثر انتشار المرض على طرق جمع البيانات، إذ إن حالات الانتشار واسعة النطاق مثل هذه تعوق، في كثير من الأحيان، جهودَ الباحثين في مجال الصحة النفسية فيما يتعلق بجمع البيانات، فتكون النتيجة إرجاء كل ذلك إلى فترات أكثر هدوءًا، مما يكون له تأثير على المحصلة النهائية لطرق التعامل مع الاضطرابات النفسية في أوقات مماثلة.

وللتعامل مع هذا النوع من الاضطرابات، حاولت دراسة نُشرت مؤخرًا في “آشيان جورنال أوف سايكايتري” Asian Journal of Psychiatry وضع إطار عمل يساعد صانعي القرارات، والباحثين، والأطباء على التعامل مع الوضع الراهن. اعتمدت الدراسة على تصورات عدد من الأطباء النفسيين، الذين هم في مقتبل حياتهم المهنية، وينتمون إلى 19 دولة مختلفة تغطي كافة الأماكن التي تُشرِف عليها منظمة الصحة العالمية، مما يتيح وضع تصوّر عن قرب، وتطوير منهجية تعامل مع الاضطرابات النفسية، خاصة مع الافتقار إلى خطط علاجية واضحة تعتمد على الدليل.

وحسبما تقول مروة نوفل، الطبيبة النفسية المشارِكة في هذا البحث: “معظم الدراسات السابقة كان لمنطقة محدودة، أو لمرحلة واحدة من مراحل الوباء، وبالتالي يصعب وضع خطة عمل بناء على تلك الدراسات”، وهو ما حاولت هذه الدراسة التوسّع فيه، من خلال إلقاء الضوء على الصحة النفسية في مراحل الاستعداد للوباء، والمراحل الأولى منه في 16 دولة.  

صياغة رؤية مشتركة

استطاع الباحثون الوصول إلى تصور عام، عن طريق استبيان يطرح على الأطباء أسئلة، يمكن من خلالها تكوين وجهة نظر شاملة عن الوضع الحالي للصحة النفسية في بلدانهم، وعن المعلومات الخاطئة المتداولة عن الفيروس، التي ترى نوفل أنها ترتبط بتأثيرات نفسية عنيفة، مثل حالة الخوف الشديد من الإصابة بالفيروس، أو الإنكار الكامل لوجود الفيروس من الأصل، مما ينتج عنه في النهاية نسج أساطير غير حقيقية وغير علمية حول نشأة الفيروس، وطريقة انتشاره مثلًا.

إنّ التصور الذي وضعه الأطباء، والذي يتضمن حلولًا ومناهج رعاية يمكن الوصول إليها بسهولة، بُنى في الأساس على معلومات أمكن جمعها من قبل عمّا يتعلق بالصحة النفسية للأفراد عند انتشار أمراض مشابهة، مثل “متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد” SARS، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS، وغيرها من الأمراض التي انتشرت في مساحات واسعة من العالم. كما يعتمد هذا التصور أيضًا على رؤية الأطباء النفسيين المباشرة، التي يعززها أنّ المؤلفين ما زالوا في مقتبل حياتهم المهنية، وبالتالي يكونون على درجة تَواصُل أكبر مع مرضاهم.

يقدم مؤلفو الدراسة فكرة وجود “منحنى عاطفي” للوباء، قد يكون منفصلًا عن منحنى الوباء نفسه وانتشاره. ويتضمن هذا المنحنى العاطفي موجتين من الاضطرابات النفسية، تضم الأولى أعراضًا مثل القلق، والحيرة، والاكتئاب، واضطرابات النوم، وهي الموجة التي تسببها، حسبما تطرح الدراسة، سياسات التباعد الجسدي، والجهل بالمرض، والخوف من المجهول، وما إلى ذلك من مشاعر ترتبط بالتعامل مع مرض كهذا للمرة الأولى. أما الموجة الثانية، فإنها ستكون على درجة أعنف وأكثر حدة، متمثلة في اضطراب ما بعد الصدمة، وفي أشكال مختلفة من الاكتئاب، وكلها نتيجة للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للوباء، إضافة إلى حالات الوفاة الناتجة عن المرض. وتصف الدراسة هذه الموجة الثانية بأنها “ستكون أعنف، وأعمق أثرًا”.

تؤكد نوفل، في الوقت نفسه، على أن هذا التصور ليس دقيقًا تمامًا، وإنْ كان يلعب دورًا في رسم طريق للباحثين والسياسيين، مما يمثل نقطة انطلاق للتعامل مع الأعراض النفسية الحادة، خاصة في ظل أوجه عدم اليقين المتعددة، التي يضطر الأطباء المعالجون للتعامل معها في هذا الظرف الاستثنائي.  

آثار حادة

في عام 2015، نشرت جوليان هولت-لونستاد، وهي عالمة أعصاب في جامعة بريجهام يونج، تحليلًا لسبعين دراسة، أجريت على ما يقرب من 3.4 مليون شخص، لفحص آثار العزلة الاجتماعية والوحدة. وكان من نتائجها أن العزلة عززت من معدلات الموت المبكر بنسبة 26 % من عينة البحث، مثلما أدى الانعزال الاجتماعي إلى زيادة حالات الوفاة بنسبة 20%، وكل ذلك بغض النظر عن الجنس، أو المكان، أو الثقافة.

وتبدو هذه النتائج ذات دلالة في الفترة الحالية التي تُطبِّق فيها الحكومات كثيرًا من الإجراءات التي تهدف إلى إبعاد الناس عن بعضهم بعضًا، لتقليل احتمالية انتقال العدوى قدر الإمكان. وهذا الأمر دفع ديفورا كيستل، مديرة قسم الصحة النفسية في منظمة الصحة العالمية، إلى التحذير من أننا قد نواجه أزمة حقيقية فيما يتعلق بصحة الأفراد النفسية، ما يشير إلى أن هذه المشكلة لن تكون هامشية، بل إنها عنصر أساسي في الوضع الراهن.

من ناحية أخرى، يرى محمد الشيخ، استشاري الطب والعلاج النفسي في جامعة برلين الطبية (شاريتيه) -وهو باحث غير مشارك في الدراسة- أن النتائج التي خرجت بها الدراسة هي مجرد نتائج أوّلية، نظرًا إلى طبيعة المنهجية المستخدمة نفسها، وإلى أن هناك حاجة إلى تطبيقها، من أجل التحقق من هذه النتائج، ومعرفة ما إذا كان يمكن الاعتماد عليها، أم لا، وإنْ كانت نتائج الدراسة تحمل دلالات واضحة لضرورة جَعْل إجراءات الصحة النفسية ضمن استعدادات مواجهة الوباء.

هناك صعوبة أخرى تتعلق بقياس تأثير الأوبئة والكوارث الكُبرى على الصحة النفسية للأفراد، حسب قول الشيخ، وتتمثل في أنه: “لا توجد لدينا أدوات لقياس هذا الأمر بعيدًا عن الكارثة نفسها، ولا توجد وسيلة علمية واضحة لتعيين علاقة سببية بين هذا النوع من الأحداث الكُبرى، والاضطرابات النفسية بدلالاتها الطبّية، وإنْ كانت الكوارث بالطبع عاملًا محفزًا، لكننا سنضطر للانتظار، حتى ينتهي كل هذا، لكي نتمكن من تقييم الآثار”.

وتؤكد مروة نوفل أن إطار العمل الذي وضعته الدراسة يمكن تقسيمه حسب مراحل الوباء نفسه، حيث إن هذا الإطار يحاول التصرف في حدود المُتاح. ففي المرحلة المبكرة من الأمور، أوصت الدراسة بضرورة إعداد البِنية التحتية للتعامل مع الظروف القادمة، مثل نظام الاستشارات النفسية عن بُعد، وتدريب العاملين، وما إلى ذلك. أما في المراحل المتأخرة، فإن هناك ضرورة حقيقية لاستخدام التكنولوجيا في تقديم الخدمات النفسية، مثل الخطوط الساخنة المخصصة للطب النفسي، والمنصات الرقمية. كما إن إنشاء مجموعات الدعم الافتراضية، التي تستخدم تطبيقات بعينها، مثل “واتساب” Whatsapp، أو “تيليجرام” Telegram، وغيرها، قد تحسن من إمكانية الوصول إلى محتاجي هذه الخدمات النفسية.  

ليس الفيروس فقط

تمتد هذه الآثار السلبية كذلك إلى الطواقم الطبية نفسها. ففي دراسة نُشرت في مطلع فبراير 2020، حول الآثار النفسية الحادة التي تُعاني منها الطواقم الطبية في الصين، أوضح المؤلفون أن الحالة الاستثنائية الملقاة على عواتق الطواقم الطبية تؤثر بشكل حاد على الصحة النفسية لهم، وأفادوا بأنّ هناك حالات متكررة ظهرت فيها أعراض واضحة، مثل التوتر، واضطرابات القلق، وأعراض الاكتئاب، بل ويمتد الأمر إلى ظهور اضطرابات في النوم، ونوبات الفزع والغضب. تؤثر هذه الاضطرابات بطبيعة الحال على قدرة الطواقم الطبية على العمل، وهو ما قد يتسبب في تأثير سلبي على الحالات التي يباشرونها كذلك، وهو ما يزيد من عبء مرض “كوفيد-19” على كافة الأصعدة.

“من المهم التركيز على الصحة النفسية لمقدمي الخدمة الطبية، باعتبارهم الركن الأساسي في الخدمة، وبالتالي فهم يتعرضون لضغط نفسي كبير يجب التعامل معه”، حسبما تقول نوفل، التي تضيف قائلة إن منظمة الصحة العالمية لم تنوه للأسف عن استعداد الصحة النفسية، بوصفها مكونًا أساسيًّا من خطة العمل الشاملة لمواجهة فيروس كورونا. وتتابع نوفل بقولها: “كان اتجاه منظمة الصحة العالمية ينصب في غالبه على الصحة الجسدية للأفراد، رغم تأثير كثير من الاضطرابات النفسية، مثل القلق وغيره، على المناعة، وبالتالي زيادة احتماليات المرض”. وتضيف أن البنية التحتية للطب النفسي غير متماسكة أصلًا في كثير من البلدان، وهو ما أدى إلى تعطيل عملية وضع خطط التعامل مع الأزمة النفسية بعد ظهور الوباء.

كانت هذه هي المحاولة الأساسية لهذه الدراسة، حسب تصوّر الشيخ، الذي أكّد أن الدراسة حاولت لفت النظر إلى محورية الدور الذي تلعبه الصحة النفسية في مقاومة الوباء الحالي، وضرورة تضمين خطط عمل مماثلة ضمن استعدادات التعامل معه، حتى لا تتفاقم المشكلة مع الوقت. وتوافقه نوفل الرأي، موضحة أن علينا الانتباه جيدًا إلى الموجه الثانية من الاضطرابات النفسية، والاستعداد لها بكل الطرق، سواء بتدريب العاملين في القطاع الطبي، أم بتوجيه التمويل ناحية خطة شاملة للتعامل مع جميع أطراف الأزمة، ومن بينهم العاملون في القطاع الطبي.

أما عن عمرو، فإنه يلاحظ في نفسه خلال هذه الأيام شعورًا مستمرًا بالحصار، حيث يقول: “في العادة، لا أمسك هاتفي كثيرًا، لكنْ في هذه الفترة لا أتركه من يدي”. إنه يقرأ كل شيء عن الموضوع، ويبحث عن بروتوكولات جديدة للعلاج، أو عن ورقة بحثية صدرت منذ أيام، أو عن تعليق على ورقة بحثية، واصفًا الأمر بأنه شعور دائم ومستمر بأنّ هناك خطرًا دائمًا يتحرك من حوله في جميع الاتجاهات. 

المصدر:https://arabicedition.nature.com/journal/2020/11/15779/%D8%B3%D9%82%D8%B7-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA__-%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9%C2%A0